معظم شمال السودان تقطنه قبائل مختلطة في أصلها بالعنصر العربي والنوبي، وتوحد بينهم لغة وثقافة ودين واحد وتطلع الى العالم العربي والاسلامي، بينما جنوب السودان تقطنه قبائل مختلفة وتتوحد في اصلها الافريقي، وملاحظ المظالم التاريخية التي تسببت فيها الحكومات المتعاقبة منذ الخمسينيات والتي معظم أو جل مسؤوليها من الشماليين والذين لم يكونوا منصفين بدءاً بعدم اشراك الجنوبيين في وفد مناقشات ما قبل الاستقلال وإبعادهم عن المباحثات التي ادت الى توقيع اتفاقية الحكم الذاتي للسودان، وهنا لا ننسى دور المستعمر الانجليزي في هذه المظالم والمعضلة الكبرى بانتهاج سياسة المناطق المقفولة وغيرها، وتهميش الأحزاب الشمالية للجنوبيين السياسيين والظاهرين على السطح بحجة وغطاء المصلحة الوطنية، فحرم الجنوبيون من تبوؤ المناصب التي خلت عند تطبيق سياسة السودنة، وجرى اجحاف بتحديد أجور الموظفين الجنوبيين وعدم مساواتهم باخوانهم ورصفائهم بالشمال. وهذا ما جعل غوردون مورتان رئيس جبهة الجنوب يتهم حكومة اسماعيل الازهري بزرع بذور الفتنة واشعال فتيل التمرد في 5591م: «العقدة القائمة في علاقة الشمال بالجنوب مردها الى حالات عديدة من عزل الجنوبيين عن المشاركة في اهم القرارات الدستورية المتعلقة بمصيرهم، كما ان مشاركة الجنوبيين في الحكومات المتعاقبة ظلت مشاركة هامشية وغير ذات جدوى، وظلت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في حالة جمود تام. ولهذا تحول الجنوب الى ساحة حرب ولا احد منا يرغب او يحتمل هذا النوع من الوحدة القائمة على قوة السلاح!!» من كتاب جنوب السودان.. جدل الوحدة والانفصال للأستاذ الدكتور عبد الماجد بوب.. والملاحظ اتهام السيد مورتان للأحزاب الشمالية التي لا ترضى بغير الوحدة بين شطري القطر، وتحميل الشيخ علي عبد الرحمن زعيم حزب الشعب الديمقراطي المسؤولية للاستعمار البريطاني والهيئات التبشيرية، ولكن ماذا فعلت الاحزاب الشمالية وحكوماتها لجعل هذه الوحدة جاذبة وخياراً منذ آخر سنوات الاستعمار وبداية عهد الاستقلال؟ لا شيء سوى الحلول الموضعية والهروب من الحلول الصعبة! نعم للاستعمار البريطاني وسياسته في عزل المناطق الجنوبية وقفل المناطق على التخلف الاقتصادي والاجتماعي اكبر دور ومسؤولية، مما افقد مواطن جنوب السودان الثقة في مواطن الشمال سياسييه وتجاره وحتى الآخرين الذين لا تربطهم صلة بهذه المشكلة التي لم يخصص لها الجهد ولا الوقت ولا الاهتمام اللازم من زمرة الحكام والحكومات الشمالية والمثقفين والمتعلمين الجنوبيين على مر الحقب والازمات. وتحدث جوزيف قرنق أمام مجلس العموم البريطاني وتطرق في حديثه بصراحة واستفاضة، الى رغبته بوصفه مواطنا سودانيا وجنوبيا في وقف الحرب الاهلية، وقال: «لقد ولدت وترعرعت في جنوب السودان، وتلقيت تعليمي الاولى في مدارس الهيئات التبشيرية المسيحية، وقضيت جل سني حياتي في بحر الغزال، ولا ارى بأن مشكلة الجنوب قد نشأت بسبب الاضطهاد الديني بواسطة الشمال المسلم، فالمسيحيون في جنوب السودان لا يزيد عددهم عن 1% من سكان السودان، انني كاثوليكي ايضاً، ولا ارى ما يحمل المسلمين في الشمال على التوجس من ذلك، وبصفتي مواطنا من الجنوب، لا بد من انصاف المواطن العادي في شمال السودان بالتأكيد على أن الافارقة لا يجري اضطهادهم بسبب لون بشرتهم.. كما ان العلاقات بين القبائل العربية التي هاجرت الى السودان والزنوج الافارقة المقيمين به ظلت على احسن حال لما يزيد عن خمسة قرون». وترجع مشكلة السودان القائمة اليوم الى التفاوت في مستويات التطور الاقتصادي غير المتوازي والفوارق الثقافية والاجتماعية، لقد وقع ضرر بليغ على مواطني جنوب السودان بفعل الحكومات المتعاقبة سواء بالاهمال او عدم الاهتمام بالتنمية والتعليم واشراك الجنوبيين في الحكم الفعلي للبلاد، وتبعاً لذلك التدني الثقافي والاقتصادي، مما اقعد الجنوب وجعله يعتمد في كل شيء على الشمال والحكومة المركزية، وبالتالي الشعور بالدونية حتى في قبول الأعمال التي لا تحتاج الى الشهادات والتأهيل!! هناك مشكلة ويتوجب حلها، فقد ضاقت الحلول وما تبقى سوى وعي ابناء الجنوب بمشاكلهم الداخلية ومشاكل السودان قاطبة والمشاكل التي ستخيم في حالة صوّت ابناء الجنوب للانفصال، فسودان ما بعد توقيع اتفاقية نيفاشا ليس هو سودان ما قبلها، فلقد حكم الجنوب نفسه بنفسه وأخذ 82% من مقاعد السيادة في حكم مجمل السودان في سابقة تنبئ بتساوي الكتوف، بل تعوض حرمان الماضي سواء السياسي او الاجتماعي او الاقتصادي، سواء السلبيات من صنع الاستعمار او التي كانت بايدي السودانيين. يا أبناء السودان اتحدوا فالعالم الحديث ورغم الامكانات يسعى لاكثر من ذلك، فازيلت الحدود وانتخب برلمان واحد، وكل ذلك استعداداً لمواجهات المستقبل التي باتت اقتصادية في المقام الاول، علماً بأنه لا تربط دولهم لغة واحدة او عنصر اثني ولا ديني! اما نحن فنسعى للتمزق، وتحف ببلادنا دول جوار اقليمي وعالمي كلها مطامع وصراعات حول المصالح في سوادننا، دعونا نقرأ التاريخ بعد اتفاقية نيفاشا بخيرها وشرها، ونقول اليوم نرفع راية استقلالنا الحقيقي، ففي مؤتمر وملتقى كوكا دام القى العقيد الدكتور جون قرنق كلمة جاء فيها: «إن الحركة تضع خطاً فاصلاً بين الثقافة العربية وسياسة الغوض تحت راية الثقافة العربية والديانة الاسلامية «الثقافة العربية هي ثقافتنا، واللغة العربية هي لغتنا وسيظل الامر كما هو عليه»، فقد وجدتا لتبقيا، وما نسعى لازالته هو الهيمنة المجحفة، وسوف تكون اللغة العربية هي لغة «السودان الجديد»، ومن الخطل القول بأن اللغة العربية هي لغة العرب، فالاسلام واللغة العربية هي جزء من خصائص الواقع السوداني، وبالرغم من اصولنا الزنجية الا اننا شعب هجين.. هناك دم عربي في شرايينا، لذلك دعونا نجعل هذا الكوكتيل وطنا مقتدرا»! هذا حديث مؤسس الحركة والجيش الشعبي المسيطر والمهيمن على المقاليد والمفاتيح حتى وفاته..!! فما بال صغار الحركة الشعبية يلوحون ويهددون بالانفصال اليوم؟ الجميع يعلم أن المعضلة وسبب هذه المشكلة التي قادت لحروب اهلكت الزرع والضرع هي عدم المساواة وغياب العدالة وفقدان الثقة، ولكن في الجانب الآخر نجد الاستفتاء وعدم البحث عن الحقوق بجدية تامة، حيث سنحت الفرصة في توقيع اتفاقية اديس أبابا التي لم تحرك ساكناً في سياسيي الجنوب بالاتجاه لاخذ الحقوق وتنمية الجنوب، بل استفاد بعض السياسيين فوائد شخصية، واستشرى الفساد الاداري والمالي، وها هي المجموعات والنخب المدنية والعسكرية التي حكمت السودان منذ الاستقلال قد عجزت عن مسؤولياتها والنهوض بأعباء بناء الدولة الوطنية متعددة الثقافات والديانات والاعراق، ويا لها من فضيحة فعلاً تؤرق الجنوبيين وتجعلنا بصفتنا شماليين نشفق على دولة السودان الموحدة والمشاكل التي ستنجم عن تقسيمها الى دولتين، وليس آخرها حروب الحدود التي ستأكل الاخضر واليابس، وها هو نفس السلوك يتكرر بعد توقيع اتفاقية نيفاشا! مما ينذر بشؤم الانفصال وإعادة الحروب، فالانقاذ اعطت من الحقوق ما لم يستطع الآخرون إعطاءه، وجون قرنق كان يمني نفسه بحكم السودان كله، واليوم تبخرت احلام ابنائه فجعلوا يحلمون بحكم دولة جنوب السودان التي تملك أسس فنائها بداخلها، اذاً الانفصال لا الوحدة.