نبه لغويون من القرنين الثاني والثالث الهجريين الى قضية الانتحال في الشعر العربي، بيد ان الدكتور طه حسين 9881-3791م عميد الادب العربي وهو يأخذ بطرائق العلماء في العصر الحديث مصطنعاً منهج الشك الديكارتي، قد شك في جملة ما شك فيه من نسبة بعض الشعر الجاهلي الى قائليه، في ابيات جليلة بنت مرة، وهي تندب حالها وحال قبيلة وائل بشقيها، وذلك «في الشعر الجاهلي» الكتاب المثير للجدل، الذي اصدره الدكتور طه حسين سنة 6291 وصادرته السلطات وقتئذٍ. نظر الدكتور طه حسين أولاً نظرة ريبة الى الزعم القائل إن اقدم شعر قالته العرب أبيات من شعر مهلهل بن ربيعة خال امرئ القيس الملك الضليل: على أني تركتُ بواردات بجيراً في دم مثل العبير هتكت به بيوت بني عباد وبعض الغشم أشفى للصدور على أن ليس يوفى من كليب إذا برزت مخبأة الخدور وهمام بن مرة قد تركنا عليه القُعشمان من النسور أليس يقع من نفسك موقع الدهش أن يستقيم وزن هذا الشعر وتضطرد قافيته، وأن يلائم قواعد النحو وأساليب النظم لا يشذ في شيء ولا يظهر عليه شيء من أعراض القدم او مما يدل على ان صاحبه هو اول من قصد القصيد وطول الشعر؟ أليس يقع في نفسك هذا كله موقع الدهش حين تلاحظ معه سهولة اللفظ ولينه وإسفاف الشاعر فيه إلى حيث لا تشك أنه رجل من الذين لا يقدرون إلا على مبتذل اللفظ وسوقيه، ولكننا لا نريد أن نترك مهلهلاً هذا دون أن نضيف اليه امرأة أخيه جليلة التي رثت كليباً فيما يقول الرواة- بشعر لا ندري أيستطيع شاعر او شاعرة في هذا العصر الحديث أن يأتي بأشد منه سهولةً وليناً وابتذالاً، مع أننا نقرأ للخنساء وليلى الأخيلية شعراً فيه من قوة المتن وشدة الأسر ما يعطينا صورةً صادقةً للمرأة العربية البدوية. قالت جليلة: يا ابنة الأقوام إن شئت فلا تعجلي باللوم حتى تسألي فإذا أنت تبينت الذي يوجب اللوم فلومي واعذلي إن تكن أخت امرئ ليمت على شفق منها عليه فافعلي جلَّ عندي فعل جساس فيا حسرتي عما انجلى أو ينجلي فعل جساس على وجدي به قاصم ظهري ومدنٍ أجلى وقد أعرضنا في كل هذه الأحاديث عن اسجاع ما نظن ان احداً يرتاب في انها مصنوعة متكلفة، ونعتقد أن قراءة هذا الشعر الذي رويناه تكفي لنضيف في غير مشقة مهلهلاً وامرأة أخيه الى ابن اخته امرئ القيس. بثقة المعتد وهدوء الواثق يلتفت أديبنا الروائي الطيب صالح 9291-9002م في سفره الوضئ «المضيئون كالنجوم من أعلام العرب والفرنجة» إلى صوت المرأة، وقد اطمان الى رواية الرواة، دافعاً ببعض الحجج، راداً ذلك الظن والاتهام بانتحال شعر جليلة بنت مرة في حرب البسوس: «هذا وقد نسبت كتب الادب الى جليلة ابنة مرة، قصيدة -على بساطتها- هي في ظني أبلغ من كل الشعر الذي انتهى إلينا من حرب البسوس في التعبير عن مأساة تلك الحرب وفداحتها، ولا يضير القصيدة أن بعض الرواة شككوا في نسبتها الى جليلة زوجة كليب.. وذهب أحدهم إلى أن قائلتها هي فاطمة ابنة ربيعة اخت كليب. ويسقط تلك الرواية جُملة ان صاحبها قال إن فاطمة كانت زوجة جساس بن مرة، اذ المتواتر أن فاطمة ام امرئ القيس بن حجر الكندي. كذلك لا يضير القصيدة أن عميد الأدب العربي رحمه الله ازدارها في كتابه عن الشعر الجاهلي بسبب بساطتها وسلاستها، واعتبرها من انتحال الرواة في الإسلام.. وقد اعتبر شعر «المهلهل» أيضا شعراً منحولاً. رحم الله العميد وغفر له، فهو رغم سعة علمه ودقة فهمه، أراد أن يثبت في كتابه ذاك نظرة مسبقة فتزمت اي تزمت ككل أصحاب النظريات المتعسفة. وكان يعلم بطبيعة الحال أن البساطة والسلاسة والابتذال احيانا، تجري في أوصال شعر الإنسانية قاطبة منذ أن قيل الشعر، وإلا فما هو الطريف في مثل هذا القول للشاعر اليوناني القديم «بندار» من القرن الخامس بعد الميلاد، الذي سمُّوه «أمير الشعراء وشاعر الأمراء». ما حياة الإنسان إلا بعض يوم ماذا يكون الإنسان؟ وماذا لا يكون؟ إنه لا أكثر من سمادير حلم حينئذ تعم البهجة وتصير الحياة حلوة مثل العسل. اليس أجمل من هذا قول لبيد؟ فإن تسألينا فيم نحن؟ فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر نحل بلاداً كلها حل قبلنا ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير كان العميد رحمه الله حفياً بالادب اليوناني القديم، ولم نقرأ له انه شك في وجود «بندار» او «هوميروس» او «سفوكليس» او «يوربديس». لم تكن جليلة ابنة مرة شاعرة احترفت صناعة الشعر، بل كانت امرأة عادية، الا انها ورثت كسائر العرب، وعلى الاخص في ذلك الزمان سليقة شاعرية. والعواطف الانسانية لم تتغير، عواطف الامومة والابوة والرجاء والخوف والفرح والحزن، فلما رماها الدهر بافظع ما يرمي به امرأة، عبرت عن نفسها ببساطة وعفوية، فلماذا لا نقبل الشعر على انه شعرها؟ يا قتيلاً قوّض الدهر به سقف بيتيَّ جميعاً من عل هدم البيت الذي استحدثته وانثنى في هدم بيتي الأول ورماني قتله من كثب رمية المصمى به المستأصل هذه الأبيات على بساطتها تعرب في اعتقادي عن موقف انساني لا يقل تأثيراً وعمقاً عما نجده في مواقف مماثلة في تراجيديا اليونان، وحتى عند شكسبير.. وها هو ذا شكسبير يقول على لسان كيلوبترا وهي تندب عشيقها انتوني: يا أنبل الرجال! هل تموت؟ ألا يهمك أمري؟ هل ترحل وتتركني وحيدة في هذا العالم، الذي سوف يكون بعدك مثل القذى في العين يا نسائي! انظرن الى تاج الدنيا يذوب والى اكليل الغار يذوي والى رمح البطولة يهوى الأطفال سوف يتطاولون على الرجال ولن يبقى شيء عجيب ومدهش تحت ضوء القمر هذا والنص في اصله الانجليزي مكتوب بسلاسة وبساطة تقرب من الابتذال، وليست فيه كلمة واحدة ليست متداولة هذه الايام. قارن بين أبيات شكسبير وابيات جليلة ابنة مرة وهي تندب حالها وحال قبيلة وائل بشقيها، وتختصر مأساة الحرب كلها: يا نسائي دونكن اليوم قد خصني الدهر برزء معضل خصني قتل كليب بلظى من ورائي ولظى مستقبلي ليته كان دمي فاحتلبوا بدلاً منه دما من اكحلي إنني قاتلة مقتولة ولعلَّ الله ان يرتاح لي هذا صوت المرأة الثكلى في كل الحروب وفي كل العصور، واذا كان الشعر منتحلاً فلله در الذي انتحله!» وانتبه الطيب صالح باكراً الى طه حسين ونقده، وبسبب عميد الأدب العربي كوّن الاستاذ الطيب صالح نظريته المتقدمة في النقد: «اجمل النقد ما كتب عن محبة» فقد كتب الدكتور طه حسين في منظور اديبنا الطيب صالح- أجود كتاباته عن أبي العلاء لمحبة العميد أعمى المعرة، على أن العميد لم يوفق في نظر الطيب صالح عندما كتب عن أبي الطيب، لأن ابا الطيب لم يكن الشاعر الأثير عند طه حسين. وكان الطيب صالح بعيد النظر، شديد العمق، حيث نظر بمحبةٍ خالصةٍ إلى أبيات جليلة ابنة مرة، وخلص الى صحة نسبتها إليها، لا كما زعم العميد، ومرد ذلك كله نظر دقيق، ومعرفة عميقة بمظان التراث العربي، ومحبة صادقة خالصة.. «وأجمل النقد ما صدر عن محبة».