تزدحم هذه الأيام طرقات العاصمة بجحافل السيارات، وتكاد ان تنوء بهذا الحمل الثقيل الذي يفوق سعتها التصميمية، فالخرطوم تستقبل آلاف السيارات يومياً دون ان يتبع ذلك توسيع في مواعين استيعابها، فشوارعها التي تم تخطيطها في النصف الاول من القرن الماضي وخاصة الرئيسية لم تشهد توسيعاً او اضافات لاستحالة ذلك، فشوارع كالجمهورية والمك نمر والجامعة والبلدية والقصر والحرية والسيد عبد الرحمن تمثل الشوارع الرئيسية لقلب الخرطوم، هذه الشوارع قد ظلت على ما كانت عليه منذ شقها وهي الآن تستوعب اضعافاً مضاعفة لما كانت تحمله سابقاً، خاصة في الفترة الاخيرة شهدت تدفق المركبات المستوردة بصورة لم يسبق لها مثيل وتمثل فترة الانقاذ وتحديداً بعد اكتشاف البترول، تمثل هذه الفترة قمة الكثافة والضغط الهائل على الطرق الداخلية والسريعة فقد ظهرت فئة تمتلك فاره السيارات وغالي المركبات التي ترتبط ارتباطاً بالسلطة وتتمتع بكل المزايا التي انفتحت على هذه الطبقة التي لم تنمُ نمواً طبيعياً وفقاً للتدرج المعلوم في تكوين ونمو رأس المال، فقد تفاجأت هذه الطبقة بانها تمتلك اموالاً ضخمة دون ان تحلم او تهيئ نفسها لهذه الطفرة الفجائية، ولم تستطع ان توظف هذا المال في الانتاج وتأسيس البنيات التحتية، لان هذا المال لم يكن نتاجاً لعمليات انتاجية منظمة سواء أكانت زراعية ام صناعية او تجارية وانما كانت نتيجة صفقات وعمولات وقفزات فجائية جعلت هذه الطبقة تصاب بالدوار فاخذت تنفق هذه الاموال في الصرف البذخي والسلوك الاستهلاكي والمظهري، فهذه الطبقة انتقلت من العدم والبؤس الى التخمة فأخذت تلعب بالفلوس لعباً دون ان تضع اعتباراً للحرص والاتزان في الصرف، فهذه الشريحة تصرف بلا حساب صرف من لا يخشى الفقر، فهي لم تكد ولم تتعب ولم تشقَ في تحصيل هذه الاموال ورأسمالها الوحيد هو انتماؤها للسلطة السياسية الحاكمة، الامر الذي مكنها من الاستئثار بالامتيازات والتسهيلات والاعفاءات الضرائبية والجمركية، والعلاقات المتميزة التي مكنها من جني المليارات والاستئثار بالصفقات عبر جلسات ودعوات في دوائر مغلقة مسنودة بالتزكيات والدعوات والتبريكات ومفتاح الابواب المغلقة عبارة «فلان اخونا وله سابق مجاهدات». هذه الحلقة يصعب اختراقها وهي مقفولة على اشخاص يتصفون بصفات معينة ومن لا تتوفر فيه فلا يحلم بالاقتراب منها. وفقاً لهذه المنهجية تركز رأس المال في هذه الفئة التي اتخم المال جيوبها ففاضت به على الطرقات في شكل عربات لا تقتصر على الشخص المعني، وانما تنداح لكل افراد اسرته والمحيطين به فهنالك عربة للخضار وعربة لتوصيل الاطفال المدارس، ومن يبلغ منهم الحلم يستقل او تستقل بعربة خاصة، وهنالك عربة للمدام لزيارة الجيران، واخرى للتسوق واخرى لزوم المناسبات والفشخرة والمنظرة، هذه العربات مختلفة الالوان والاحجام والقيمة، فهنالك العربة التي يبلغ سعرها المليون دولار وهنالك ما يفوقه ودونه، لكن المشكلة التي ظلت صعبة الحل وتمثل سبباً لتنقيص الحياة وفقدان التمتع بهذه الفوارة.. عدم وجود شوارع خالية تمشي عليها هذه الدواب التي انعم الله بها على عباده، وما يزيد الامر الماً وحزناً ان هذه العربات الثمينة تزاحمها في الطرقات عربات لا تشبهها لا في الشكل ولا في المضمون، وتكاد ان تحتك بها وتتعامل معها على قدم المساواة، فهي تسير بجانبها في الطريق وترفع لها عقيرتها بآلة التنبيه المشروخة التي اعتلاها الصدى، دون اعطاء اعتبار لفخامتها وابهتها، ودون ان تضعها في مقامها وتعطيها ما تستحقه من احترام وتوقير، واصحاب هذه السيارات يشاركون سياراتهم نفس الاحساس، ولسان حالهم ينادي بان تحتكر الشوارع الوسطية المهمة في السوق الافرنجي والسوق العربي وشوارع الضواحي الارستقراطية لسياراتهم، دون ان يسمح لتلك السيارات الكحيانة بالاقتراب منها ويكفيها ان تمارس عاداتها الذميمة في الحشرجة والبنشرة، والتعطل، في الاحياء الطرفية التي تشبه قاطنيها ويشبهونها، فهل يعقل ان تسير عربة تبلغ قيمتها مليون دولار بالقرب من عربة تيكو او داتسون؟ انه الظلم بعينه الا تدري هذه العربات الحيزبون مقامات فاره العربات؟ وهذا العدد الهائل كما اسلفنا شكل ضغطاً رهيبا على الطرق وادى لاختناقات مرورية في غير اوقات الذروة، وقد سعت الجهات المختصة لفك هذه الاختناقات بانزال شرطة المرور للشوارع وزيادة اعدادها، وقد ادى ذلك لانسياب حركة المرور نسبياً في بعض الطرق، الا ان الطرق الرئيسية التي تشق قلب المدينة لم تفلح هذه المعالجة في تسهيل الحركة بها، وقد شكل ذلك عبئاً ضاغطاً على رجل المرور انعكس على طريقة تعامله مع مستخدمي الطريق الراكبين والراجلين، ولعل المسؤولين عن المرور استشعروا الكيفية التي يتعامل بها فاعلن الفريق عابدين الطاهر سعيه لان ترتسم الابتسامة على شفاه عسكري المرور ونادى بنظرية رجل المرور المبتسم، والسيد الفريق عندما نادى بهذا الاقتراح لعله لم يضع حسباناً لمرضى الضغط والسكري والقلب، فرؤية رجل المرور وهو يبتسم ستصيب هؤلاء بالصدمة وربما تؤدي بحياتهم، فهؤلاء من كبار السن ولم يروا في حياتهم الطويلة رجل المرور مبتسماً، ورؤيته بعد هذا العمر المديد ستكون مفاجأة مميتة وعلى السيد الفريق مراجعة هذا الاقتراح لان ضحاياه سيفوقون ضحايا حوادث المرور، فمنذ ان نشأنا في هذه الدنيا لم نر رجل المرور الا وسبابته تلامس انف محدثه، وغليظ القول يخرج من فمه كالحمم والرصاص، ولا يتحدث اليك الا بلغة الامر والتعنيف، واذا حاولت توضيح الامر له فان مصيرك سحب الرخصة، واعداد قائمة بالمخالفات التي ارتكبتها فالسياسة المتبعة في تحفيز شرطي المرور واستقطاع جعل معلوم من قيمة المخالفات التي يتحصلها تجعله غير محايد، ولديه مصلحة في اكتشاف وترصد المخالفات، فالفريق محجوب حسن سعد سبق وان اعلن بان تحصيل رسوم المخالفات ليست من واجبات الشرطي وقد اصدر قراره بمنع التحصيل بواسطة الشرطة، الا ان هذا القرار وللاسف قد طواه النسيان، ونعود لابتسامة رجل المرور فرغم ان هذا الامر من الاستحالة بمكان حيث ان رجل المرور جزء لا يتجزأ من مجتمعه، فالشعب السوداني لديه خصومة تامة مع الابتسامة، وبينه وبين رقيق القول، ولطيف الحديث عداوة تامة، فالشعب السوداني هو الشعب الوحيد عابث الوجه دون اي سبب، وموروثاته وثقافته تقدح في الابتسام وتضعه في خانة الموبقات، وامثاله وحكمه تحض على ذلك فهناك القول المأثور «الضحك بلا سبب قلة أدب»، واذا رأى احدهم يبتسم فانه يصفه بالعبارات التي تجعل هذه الابتسامة تموت في مهدها «يتكشم ذي نار القصب». او بعبارة عامل فيها ظريف ودمه خفيف. فكل شعوب الدنيا تستعمل العبارات الرقيقة في التحايا والمعاملات وتداعب بعضها، وتجامل بالفاظ ارق من النسيم، وهذا ما يعجز عنه لساننا الذي يتحالف مع الجفاء والتقطيب وخشن القول، فمن يقابلنا ويتحدث لنا بعبارات رقيقة نتوجس منه خيفة ونعد العدة للرد عليه بما يحول وتحقيق غايته التي تتمثل وفي يقين لا يقبل الشك انه ما فعل ذلك الا سعيا للحصول على غرض معين، نأتي بهذا السلوك الجاف وديننا الحنيف يحضنا على التعامل الراقي ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: «تبسمك في وجه اخيك صدقة» والله سبحانه وتعالى يأمر نبييه موسى وهرون عندما ارسلهما لفرعون عدو الله «قولا له قولاً لينا»، اتمنى صادقاً ان تنجح هذه الدعوة للابتسام. وحتى لا نغمط الناس اشياءهم لا بد لنا من الاشارة الى ان هنالك نماذج مشرقة تستوجب الاقتداء بها، ويمكن ان تكون لبنة ينطلق منها تطبيق مقولة الجندي الباسم، فهنالك عسكري المرور الذي كان يسير الحركة في تمام الساعة التاسعة الا خمس دقائق يوم الاحد 42/01/0102م عند صينية كبري المنشية ناحية الجريف شرق، فقد أوقف هذا الشرطي حركة المرور فجأة واخذ بيد امرأة عجوز وعدى بها للاتجاه المقابل، وهنالك شرطي المرور الذي وجدناه يساعد صاحب عربة تعطلت عند كوبري النيل الأزرق وذاك الذي رأيته ممسكاً بالمفتاح يساعد صاحب العربة في تغيير العجل المعطوب، وذاك الذي امسك بالكرسي المتحرك الذي يجلس عليه رجل كبير في السن ويعبر به الشارع، ولكن عبارة الشرطي المبتسم تجد تجسيدها الحي في رجل المرور الذي يقف على شارع النيل في التقاطع الغربي للقصر الجمهوري، هذا الشرطي مثال للتهذيب والادب الجم والتعامل الراقي وتحية المارين امامه بوجه طليق يشع طمأنينة وتفاؤل دون مغالاة او انفعال، ولن يختم هذا المقال الا بتحية رجل المرور الاشهر بريش الذي قدم نموذجاً متميزاً في التعامل الحضاري.