كما عدنا القرّاء الكرام، ها نحن نواصل في مناقشة بعض تفاصيل العقود المشكِلة لنظام البوت. إن أهم العقود على الإطلاق في نظام البوت هو عقد الامتياز أو الرخصة، فبموجب هذه الوثيقة تترتب كل الآثار القانونية والعلاقات ما بين جميع الأطراف في كافة العقود الداخلة في نظام البوت، بمعنى أن أثر هذا العقد لا يقتصر على طرفيه الموقعين عليه فقط، وعقد الامتياز هو الذي يعطي شركة المشروع الحق في تمويل المشروع وبنائه وتشغيله وصيانته وتحصيل الأموال الناتجة عن بيع خدماته، وكما أسلفنا فإن عقد الامتياز يعطي الحق لشركة المشروع في الاحتفاظ به وتشغيله لسنين طويلة، ولحساب مدة الامتياز يجب مراعاة العوامل الآتية: 1 حجم التمويل اللازم لتنفيذ المشروع. 2 تكلفة رأس المال اللازم لتنفيذ المشروع «سعر الفائدة في التمويل التقليدي أو هامش الأرباح في التمويل الإسلامي، بالإضافة إلى توزيعات الأرباح لحملة الأسهم والعوائد على السندات إن وجدت». 3 المدة الزمنية التي تلزم لإنشاء وتشييد المشروع إلى مرحلة التشغيل. 4 الأرباح المعقولة التي تجعل المستثمر يفضل هذا المشروع على غيره «تكلفة الفرصة البديلة». 5 العمر الافتراضي للمشروع وأصوله. 6 التدفقات النقدية المتوقعة من المشروع. 7 حساب تكلفة التشغيل والصيانة والتأمين. 8- حساب معدلات التضخم وانخفاض سعر العملة المحلية. 9 حساب احتمالات المخاطر التي لا يمكن تغطيتها بالتأمين. 10 الحاجة إلى الخدمة التي سيقدمها المشروع، ففي بعض الأحيان تكون الخدمة من الضرورة بحيث يمكن إعطاء ميزات تشجيعية إضافية لخدمة أغراض اجتماعية أو ذات طابع يخدم الاستقرار والسلام الاجتماعي، وربما تحتاج الدولة لأن تروِّج لمشاريع البوت بتقديم نماذج ناجحة لمشاريع موجودة، ففي هذه الحالة يمكن أن تتسامح في فترة الامتياز. ومن المسائل المهمة التي يجب أن توضح بشكل قاطع في عقد أو اتفاقية الامتياز، هي إمكانية تحويل الالتزامات والحقوق التي تُمنح لشركة المشروع إلى شركة أخرى أو إلى جهة أخرى، وتنبع أهمية هذه المسألة في حال فشل شركة المشروع في القيام بالتزاماتها بحسب عقد الامتياز، فإذا فشلت مثلا شركة المشروع في تشييد المشروع أو تشغيله بحسب المواصفات المنصوص عليها في عقد الامتياز كيف سيكون الوضع؟ ولتقريب هذه المسألة فيمكن تناولها من منظور الممولين، فإحدى الضمانات المهمة بالنسبة للممولين هي إمكانية تدخلهم في حال فشل شركة المشروع في تشغيله بالصورة المتوقعة منه لتحقيق مستوى معين من التدفقات النقدية، وعادة يوجد شرط في عقد التمويل يعطي الممولين الحق في تعيين شركة أخرى لتشغيل المشروع وإدارته. ومن جهة أخرى يكون للحكومة أو للجهة المانحة للامتياز القرار الأخير في قبول أو رفض الشركة المحول إليها الامتياز، فمما لا شك فيه أن قرار منح الامتياز لشركة المشروع ابتداءً قد مرَّ أو يفترض أنه مرَّ بعملية فحص وتحرٍ واسعة عن شركة المشروع، وحتى عن الشركات المؤسسة لها، للتأكد من قدراتها المالية والفنية. والمسألة الأخرى التي تحتاج إلى بعض الإضاءة، هي الحق في إنهاء العقد، فمن يجوز له إنهاء العقد؟ من الواضح أن الحكومة يمكنها أن تنهي العقد ذلك، إذا فشلت شركة المشروع في الوفاء بالتزاماتها التعاقدية وكان ذلك الالتزام جوهريا لإتمام العقد، أو كذلك حُددت صفته في العقد، كأن يعتبر شرطا مسبقا مثلاً. ومن جهة أخرى يحق لشركة المشروع إنهاء عقد المشروع إذا فشلت الحكومة «الطرف الآخر» في الوفاء بالتزاماتها التي منها على سبيل المثال: 1 تخصيص قطعة الأرض اللازمة لإقامة المشروع. 2 إعطاء المشروع إعفاءً جمركيا وضريبيا إذا نصَّ عقد الامتياز على ذلك. 3 سنُّ تشريع أو قانون خاص يمكن من قيام المشروع إذا كان ذلك ضروريا. 4 إعطاء الأذونات والتراخيص والتصديقات الحكومية اللازمة لتنفيذ وتسيير المشروع. والمسألة الثالثة هي سعر الخدمة التي سيقدمها المشروع إلى الجمهور، وهذا الأمر من الأمور الحساسة في عقود البوت، فالمواطنون الذين تعوَّدوا على تقديم خدمات المرافق العامة مجاناً قد يصدمون ومن ثم يقاومون فكرة دفع مقابل نقدي نظير الخدمة التي يتلقونها من مشروع ذي طابع عام مملوك لقطاع خاص، وبالأخص إذا كان سعر هذه الخدمة يعتبر مرتفعاً. ومن ناحية أخرى فإن تكلفة المشروع التي فصّلناها أعلاه هي الحاكمة في تحديد سعر الخدمة من وجهة نظر شركة المشروع، ويحل هذا الأمر إن صحّ «ارتفاع سعر الخدمة» بأمرين، أولهما أن تمدد فترة الامتياز لفترة أطول ولعدد أكثر من السنين كي ما تتيح لشركة المشروع تحصيلا أقل لفترة طويلة، ومن ثم تخفيف عبء تكلفة السعر على المستفيد النهائي والمستخدم لخدمة المشروع، ثانيهما أن تقوم الدولة بتقديم دعم ثابت أو بنسبة متفق عليها من التدفقات النقدية المتوقعة نظير الوحدات المنتجة لشركة المشروع، عسى أن يكون سعر الخدمة معقولا ومحتملا بحسب القدرة الشرائية للمستهلكين. والمسألة الرابعة اللازمة لنجاح المشروع والمحققة لجدواه المالية من منظور المستثمر وشركة المشروع، هي مسألة المنافسة، فهل يمكن أن يُمنح عقد امتياز لشركة لتنفيذ طريق «شارع» من المدينة «أ» إلى المدينة «ب» عبر نظام البوت، وبعد خمس سنوات تقوم الحكومة بتشييد طريق موازٍ من المدينة «أ» إلى المدينة «ب» وتكون الخدمة فيه مجانية أو بسعر أقل ؟! بالطبع هذا الأمر غير معقول، ولكنه من الجانب الآخر يثير سؤال السوق الحر الأساسي: هل يمكن قبول الاحتكار في دولة تعتمد اقتصاد السوق الحر والمنافسة وآليات العرض والطلب؟ والمسألة الخامسة والمحورية هي تحديد القانون الواجب التطبيق في حال نشوء نزاع مستقبلي متعلق بعقد الامتياز، بالإضافة للآلية التي تعمل على تسوية هذه المنازعات. ومن المعلوم أن المستثمرين الأجانب لا يثقون في القضاء في الدول النامية، وذلك لاعتبارات أهمها تشككهم في حيدة القضاء الوطني للدولة المضيفة للاستثمار، خصوصا إذا كان الطرف الآخر في التعاقد هو الدولة المضيفة للاستثمار، ويعتقد هؤلاء المستثمرون أن الجهاز القضائي في هذه الدول يخضع لنفوذ السلطة التنفيذية، وربما في بعض الأحيان يخضع لضغط الرأي العام والمشاعر القومية. وفي هذه الحالة سيصبح في رأيهم هو الخصم والحكم. إضافة إلى ذلك فإن قانون الدولة المضيفة للاستثمار نفسه خاضع للتعديل والإلغاء من قبل مؤسسات الدولة حصريا، مما قد يؤثر سلبا على الجدوى الاقتصادية للمشروع «زيادة الضرائب مثلا»، زيادة على ذلك فقد يكون في رأي المستثمر الأجنبي أنه لا القضاء المحلي ولا القانون للدولة المضيفة للاستثمار متطور ومتخصص بما فيه الكفاية لتسوية منازعات من هذا القبيل. لكل ذلك فإن اللجوء للتحكيم الدولي يعتبر الحل المقبول بالنسبة للمستثمر الأجنبي مع تحديد القانون الواجب التطبيق، وعادة يتم اختيار القانون الانجليزي مثلا واختيار مكان التحكيم في منطقة محايدة خارج الدولة المضيفة للاستثمار، وهناك مسائل دقيقة متعلقة بالتحكيم يصعب التطرق لها تفصيلا في هذه المساحة، نعد بمناقشتها لاحقا. ونلتقى.