د. محبوب خواجة مركز بحوث العولمة الحروب تخططها وتموِّلها وتخوضها الحكومات وليس مجموعات من الناس أو الأناس العاديين. وتبنى الحروب على «الأجندة» السياسية المتكئة على السيطرة الكاملة على الموارد والبشر والرقعة الإقليمية، ومعظم الحروب لها أسباب متعددة وغاية محلية وخارجية ودولية. وتخاض الحروب التي تقودها الولاياتالمتحدة في العراق وأفغانستان من أجل التأكيد على هيمنة الولاياتالمتحدة على جميع أنحاء العالم والسيطرة على الموارد الطبيعية غير المستغلة في الشرق الأوسط وخاصة النفط والغاز ولحماية قيمة الدولار الأمريكي باعتباره عملة احتياطية عالمية ثابتة. وتحدد ورقة السياسة الاستباقية التي كتبها مفكرو المحافظين الجدد في سبتمبر 2000م لوضع تصور ل»مشروع القرن الأمريكي الجديد» معلماً يسعى لهيمنة الولاياتالمتحدة على بقية القوى العالمية. وأهداف الورقة هي: تلبية طلبات الطاقة الأمريكية من خلال السيطرة بالقوة على كل موارد النفط والغاز في الشرق الأوسط العربي، ويدعم هذا المخطط الاحتلال العسكري لكل البلدان العربية المصدرة للنفط وتغيير الأنظمة متى ما كان ذلك ضرورياً لتحقيق أهداف سياسة «مشروع القرن الأمريكي الجديد» للسيطرة على العالم. ففي القرون الماضية كتب المؤرخ الألماني كارل فون كلاوزفيتز عن الحرب حيث يقول عنها: (الحرب ليست مجرد عمل سياسي ولكنها أيضاً أداة سياسية حقيقية واستمرار للتجارة السياسية وتنفيذ ذات الشيء بوسائل أخرى). إن الحروب تعلنها القلة وليس غالبية الجماهير، فالنخبة الصغيرة الحاكمة التي تخطط للحرب وتشنها كثيراً ما تكون خائفة من رد فعل المواطنين ورفضهم قبول منطق الحرب. ونجد على مر التاريخ أن القومية الأوربية أسست لمذهب الحرب بحسبانه وسيلة ضرورية لتعزيز المصلحة القومية والتفوق العنصري على «الآخرين»، فمعظم مناصري الحروب استخدموا مفردة «خوف» باعتبارها إحدى الوسائل الأساسية للدعاية والمناورة لضمان الولاء الدائم من جانب الناس العاديين لصالح دعاة الحرب النخبويين في حالة نشوب أزمة. ويشير شيلدون ريتشمان في كتابه «الحرب برنامج حكومي مايو/2007» إلى القول بأن: (الحرب أكثر خطراً من البرامج الحكومية الأخرى لا بالسبب الواضح للجميع فقط أي القتل الجماعي لكن لأن الحرب ذات جدوى في وضع المواطنين في حالة خوف وبالتالي تجعلهم يثقون في حكامهم). إن المواطنين العاديين ليس لديهم حب للحرب لأنها تعكر صفو سلامتهم وأمنهم وتدمر المساكن القائمة، فالنخبة الحاكمة التي تمثل دعاة الحرب الفعليين تجبر الناس على التفكير في مفردات الكراهية المتطرفة ورفض الآخرين ولذا يُجبر الناس على الانحياز إلى الحكام لدعم وتمويل الجهود الحربية. وفي هذا نجد شيلدون ريتشمان يصف الكيفية التي فهم بها هيرمان غورينغ الرجل الثاني بعد هتلر في القيادة حديث صناعة الحرب: (بالطبع الناس لا يريدون الحرب... ولكن بعد كل شيء فإن قادة البلاد هم الذين يحددون السياسة، ومن السهل دائماً أن تجر الناس جراً إليها سواءً أكان الأمر أمر ديمقراطية أو دكتاتورية فاشستية أو برلمان أو دكتاتورية شيوعية) شيلدون ريتشمان «الحرب برنامج حكومي». ويحاول بول كريغ روبرتس في كتابه «انهيار القوة الأمريكية» الصادر في مارس 2008م أن يوضح كيف أن الامبراطورية البريطانية انهارت بمجرد أن استنزفت أصولها المالية بسبب ديون الحرب العالمية الثانية، إذ يقول كورلي بارنيت في كتابه «انهيار القوة البريطانية، 1972م»: (إن بريطانيا قامت في بداية الحرب العالمية الثانية بوضع حدٍّ لأرصدة الذهب والنقد الجنبي لمقابلة المطالب الملِّحة للحرب وطلبت الحكومة البريطانية من الولاياتالمتحدة المساعدة في تمويل قدرتها على تحمل تكاليف الحرب، وبالتالي فإن هذا «الاعتماد» كان مؤشراً لنهاية القوة البريطانية). والآن نجد الولاياتالمتحدة تعتمد اعتماداً شديداً في حروبها الوحشية في العراق وأفغانستان على الصين واليابان والمملكة العربية السعودية، فمن المعلوم أن الخزانة الأمريكية مدينة بترليونات الدولارات لمُدينيها الخارجيين لذا فإن اعتمادها المالي يصبح باستمرار مؤشراً واضحاً لنهاية الهيمنة الدولية للولايات المتحدة ولنهاية حروبها في العراق وأفغانستان. والآن ومع انهيار النظام المالي الأمريكي وإفلاس بعض المؤسسات المصرفية الرائدة يمكن رؤية تداعيات التقلبات عبر أطياف الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الولاياتالمتحدة، فتحت إدارة بوش تقلصت قدرة الولاياتالمتحدة وحيويتها، فالولاياتالمتحدة تتفكك في الواقع باعتبارها قوة عظمى في الشئون الدولية. ولا غرو أن دول العالم الأخرى لم تعد تأخذ الولاياتالمتحدة ونفوذها التقليدي مأخذ الجد، فقد قال بول كريغ روبرتس فيما يتعلق بانهيار القوة الأمريكية: (كتب نعوم شومسكي في الآونة الأخيرة قائلاً: «إن أمريكا تظن أنها تمتلك العالم، وهذه تحديداً هي وجهة نظر إدارة بوش ولكن حقيقة الأمر هي أن الولاياتالمتحدة تدين للعالم، فقوة الولاياتالمتحدة العظمى لا يمكن لها حتى أن تموِّل عملياتها الداخلية الخاصة بها بل الأقل من ذلك بكثير أنه لا يمكن لها أن تمول حروبها غير المبررة إلا عبر كرم الأجانب الذين يقرضونها الأموال التي لا يمكن تسديدها»). ولا ريب أن الولاياتالمتحدة تعتبر مفلسة بسبب الحروب الجارية في العراق وأفغانستان، فقد قال ديفيد ووكر المراقب العام الأمريكي ورئيس مكتب المحاسبة الحكومية «ديسمبر 2007م»: (لا يمكن للحكومة الأمريكية أن تمر دون مراجعة في أية لغة يومية). والسؤال الواضح الذي يسأله بول روبرتس: (إذا كنت مستثمراً مالياً، هل تريد أن تُبقي على الديون في عملةٍ لها سجلٌّ ضعيف في مقابل عملة جزيرةٍ صغيرةٍ ضُربت بالقنبلة النووية وهُزمت في الحرب العالمية الثانية أم في مقابل عملة بلدٍ أوربيٍّ صغيرٍ مغلق يتشبث باستقلاله وهو ليس عضواً في الاتحاد الأوربي؟). وبناءً على ذلك فإن الدولار الأمريكي يتم إبداله باليورو والعملات الأخرى وسرعان ما سيُنبذ من كونه عملة احتياطية في النظام المالي الدولي. ويبدو أن بول روبرتس قلق شديد وهو يقول: (اتعجب أحياناً ما إذا كان بإمكان «القوة العظمى» المفلسة أن توفر الموارد لتعيد إلى البلاد القوات المرابطة في مئات القواعد التابعة لها في الخارج أم أن هذه القوات ستترك لحالها وكفى). هذه الحرب التي تشن على الإرهاب وهمية يقدم ميشيل ميتشر وزير البيئة البريطاني في حكومة رئيس الوزراء توني بلير في مقالته بعنوان «هذه الحرب التي تشن على الإرهاب وهمية» رؤية موثوقة للأسباب الحقيقية ل»الحرب على الإرهاب» إذ يزعم أن «الحرب على الإرهاب» شيء سطحي: فهجمات 11/9 أعطت الولاياتالمتحدة ذريعة خيالية لاستخدام القوة لتأمين هيمنتها الدولية... فما يسمى ب»الحرب على الإرهاب» استخدم إلى حدٍّ كبير غطاءً وهمياً لتحقيق الأهداف الجيوبوليتيكية الاستراتيجية الأوسع للولايات المتحدة... في الواقع أن 11/9 قدمت ذريعة مريحة للغاية لوضع خطة مشروع القرن الأمريكي الجديد موضع التنفيذ، والأدلة الواضحة على ذلك هي أن الخطط للعمل العسكري ضد أفغانستان والعراق كانت رهن اليد قبل 11/9. وقال معهد بيكر للسياسة العامة في تقريره «أبريل 2001م» بشكلٍ واضح: (إن الولاياتالمتحدة تظل حبيسة معضلتها المتعلقة بالطاقة، ويظل العراق عاملاً مؤثراً لزعزعة الاستقرار لانسياب النفط إلى الأسواق العالمية من الشرق الأوسط) وفصلت توصيات المعهد الحاجة الماسة، فطالما أن الأمر يمثل مجازفة خطيرة فقد أصبح التدخل العسكري الأمريكي هو الإجراء الأفضل «صنداي هيرالد، 6 أكتوبر 2002م». إن كلتا الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة لديهما اعتماد مضطرد على النفط المستورد من الشرق الأوسط، فالدافع الأساسي للحروب في العراق وأفغانستان المغطى بستار سياسي هو أن الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة ستفتقران لإمدادات الطاقة الهايدروكربونية الكافية في حين أن العالم العربي والإسلامي سيسيطر على 60% تقريباً من الطاقة الإنتاجية العالمية للنفط وربما الأهم من ذلك أنه سيسيطر على 95% من طاقة إنتاج النفط العالمية المتبقية. وتشير تقارير الإعلام الإخبارية إلى أن من المتوقع أن تنتج الولاياتالمتحدة 39% فقط من إنتاج نفطها المحلي في عام 2010م في حين أنها أنتجت 57% من إجمال استهلاكها المحلي من النفط عام 1990م. وتتصور حكومة المملكة المتحدة حدوث نقص حاد في الغاز وأكدت على أن 70% من الكهرباء ستنتج من الغاز وأن 90% من الغاز سيتم استيراده. ومن المثير للاهتمام ملاحظة ما قيل من أن العراق لديه 110 تريليون قدم مكعب من احتياطات الغاز فضلاً عن نسبته البالغة 15 20% تقريباً من احتياطات النفط العالمية. ويلاحظ تقرير بحثي آخر أعدته مفوضية المصالح الأمريكية «يوليو 2000م» أن موارد الطاقة الجديدة الواعدة توجد في بحر قزوين بمنطقة آسيا الوسطى ومن شأن هذه الموارد أن تجنِّب للولايات المتحدة الاعتماد الحصري على واردات النفط السعودية. ووضَّح التقرير المسارات الممكنة لتوزيع نفط بحر قزوين حيث أن خط أنبوب نفطي واحد يمر عبر أزربيجان وجورجيا وخط أنبوب آخر يمر عبر أفغانستان وباكستان سيضمنان المطالب الاستراتيجية المستقبلية لحكومة الولاياتالمتحدة. إن من المحتمل أن يكون كثير من الاستراتيجيين وهم بصدد استعراض الأدلة الوثائقية لأحداث 11/9 قد شاهدوا فشل حكومة الولاياتالمتحدة في تفادي هجمات 11/9 الإرهابية بحكم أنها تعمل على تهيئة مسرح مطلوب لأهداف سياستها وفرصة ثمينة للهجوم على العراق وأفغانستان متمثلاً في تدخل عسكري تم التخطيط له سلفاً في مطلع عام 2000م. إن الخطة السياسية لمشروع القرن الأمريكي الجديد لشهر سبتمبر 2000م تضع تصوراً لتحول القوة الأمريكية إلى قوة دولية عظمى غير قابلة للتحدي والحاجة لحدوث تراجيديا محسوسة تتسبب في هذا التحول. وتقول ورقة الخطة: (من المحتمل أن تكون مثل هذه التراجيديا بعيدة الحدوث في غياب حادثة مأساوية ومحفزة للتحول كأنْ تحدث [بيرل هاربر] جديدة). ويقول الوزير ميشيل ميتشر في مقالته التحليلية «هذه الحرب التي تشن على الإرهاب وهمية»: (الحرب الدولية على الإرهاب لها بصمات أسطورةٍ سياسية تنداح لتمهيد الطريق لأجندة مختلفة تماماً تتمثل في الهدف الأمريكي للهيمنة على العالم القائم حول تأمين السيطرة بالقوة على الإمدادات النفطية المطلوبة لتحفيز المشروع كله). فهل حققت الحرب الأمريكية التسلطية أياً من أهدافها المطروحة للهيمنة على العالم؟ وهل أمَّنت حكومتا الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة أية مساراتٍ دائمة للطاقة الهايدروكربونية لضمان أرصدتهما المتزايدة من الغاز والنفط والسيطرة المدبرة على احتياطات النفط العربي؟ وهل لا يزال الدولار الأمريكي عملة عالمية مقبولة تستخدمها دول العالم؟ وهنا نجد مايك وايتني يستشهد بحديث جنرال الجيش الأمريكي المتقاعد ريكاردو سانشيه الذي يتحدى فيه رأي إدارة بوش الذي يقول «إن المهمة أنجزت في العراق» إذ أكد سانشيه أن احتلال العراق يعتبر «كابوساً لا نهاية له في المستقبل المنظور». وزعم الجنرال سانشيه أن الإدارة الأمريكية «عاجزة وفاسدة» وبالتالي فإن أكثر ما يأمل فيه الشعب الأمريكي تحت الظروف الحالية هو «التخلص من الهزيمة». وقيل إن الجنرال سانشيه اعترف قائلاً: (بعد أربع سنوات من القتال، تواصل أمريكا معركتها اليائسة في العراق دون أي جهد مركز لوضع استراتيجية تحقق النصر في تلك البلاد الممزقة بالحرب أو في الصراع الأكبر ضد التطرف). إن المجموعة الدولية تحت إدارة الرئيس أوباما تنظر بقلق حيال الكيفية التي يحدث بها التغيير الموعود لاستراتيجية الولاياتالمتحدة الفاشلة في العراق وأفغانستان ومتى يحدث هذا التغيير. فحتام يستطيع الرئيس الجديد أن يلمَّ شعث السياسة الأمريكية مع بعضه مرة ثانية بعد انهياره الأخلاقي والسياسي والمالي؟ إذ يبدو أن الولاياتالمتحدة وبريطانيا قد خسرتا ولا تعرفا الكيفية التي تخرجان بها من هزيمتهما المُهندَسة ذاتياً في حروبهما على الإسلام. ولا يبدو أن المجموعات التي لديها تعاطف مع المؤمنين الحقيقيين ومع المقاومة الإسلامية قد خسرت شيئاً، فهذه المجموعات ليس لها بنوك تعلن الإفلاس وليس لها بوش وشيني يسقطان في الخزي والعار، فالمجاهدون يظلون متماسكين ونشطين على كل الجبهات بل إنهم يشترون الأسلحة من الولاياتالمتحدة وروسيا ليقاتلوا بها ضدهما. إن الاستراتيجيين الأمريكيين يعرفون جيداً كيف يستثمرون في سوق الأسلحة الدولية، فالولاياتالمتحدة بحسبانها قوة عظمى منهارة تجدها قلقة للغاية ولا تدري أن من الممكن أن تحلَّ محلها قريباً دول العالم النامي الأصغر منها أو مجموعة من القوى الاقتصادية الناشئة الجديدة مثل الصين والهند ودول أخرى. إن الولاياتالمتحدة في حاجة ماسة لتغيير خط الملاحة، فالرئيس أوباما انتخب بالشعار المثير «نعم يمكننا التغيير» ولكن هل يعرف الرئيس أوباما الطريقة التي يحدث بها تغييراً في الخط الملاحي في حين لم يُترك شيء للإبحار من أجل التغيير؟ إن مايك وايتني يحاول المشاركة في منظور إنساني بشأن هموم المدنيين العراقيين الضحايا الحقيقيين لهذه الحرب الشرسة التي تشن على بلادهم حيث يورد ما تكتبه ليلى أنور في موقع تدوينها الآني بالشبكة blog لتعكس الطريقة التي يفكر بها الشعب العراقي المتأثر سلباً حيال الحرب الجارية بقيادة الولاياتالمتحدة وبريطانيا وحيال الاحتلال والتفجيرات اليومية المتواصلة ضد المدنيين حيث تقول ليلى أنور: (تعالوا وشاهدوا مشارح جثثنا الطافحة... تعالوا وشاهدوا بقايا ضرباتكم الموجعة. في كل يوم وتحت دعوى القاعدة أو المتمردين أو المقاتلين أو أي اسمٍ خيالي تلفقونه لا تكفُّون ولا حتى ليوم واحد عن ذبح أبريائنا... فلمدة أربعة أعوام لم تتوقفوا ليوم واحد ولا حتى خلال فترات العطلات ولا خلال المناسبات الدينية ولا حتى خلال اليوم الذي وُلد فيه المدعو ربكم... إن كان لكم ربٌّ كائن). *د. محبوب خواجة أكاديمي ذو اهتماماتٍ خاصة في السلام والأمن الدوليين وفي فض النزاع والحضارات المقارنة وله منشورات عديدة في الشئون الدولية، وآخر كتاب له هو «إلى أمريكا وكندا بالمنطق».