تأخرت بضع دقائق على هير رودلف الذي كان ينتظرني بالأسفل للذهاب إلى المطار لاستقبال المجموعة السودانية القادمة الى جمهورية النمسا، لقضاء شهر تدريبي في الفندقة والسياحة، اعتذرت له عن هذه الدقائق، لعلمي أن الدقيقة تعني الكثير عند النمساويين، مع العلم ان أدب الاعتذار في هذه البلاد يتعلمه الاطفال في دور الحضانة حتى يصير سلوك عامة الناس. عثمان، عوض، تهاني وهديل أربعة شباب سودانيون من مركز التدريب المهني بالحلفايا، تم اختيارهم من قبل مكتب الأممالمتحدة للصناعة والتنمية بالتعاون مع التدريب المهني في السودان، ليتلقوا دورة تدريبية بجمهورية النمسا في الفندقة والسياحة، حتى يتسني لهم في العودة تدريب طلاب المعهد. راعية البرنامج مس ايناس فاين جارد السيدة السمراء الجميلة التي أوكلت إليها قضية التدريب واختيار مجموعة متوسطي الأعمار بين «28 35» عاماً، حتى يتمكنوا من تأهيل طلاب التدريب المهني الذي كان حاضراً في السودان منذ فترات طويلة، ولكنه أُهمل، مما أفقر البلاد من العمالة الماهرة. وقد لاحظت السيدة إيناس ان بالسودان فنادق ترقى لسبع نجوم كما تقول، ولكن لا توجد بها عمالة سودانية مدربة في هذا المجال، وتأمل أن يتم تدريب السودانيين خاصة الذين يحملون شهادات جامعية في المجال. واوضح الطلاب الذين تم اختيارهم انهم لم يروا ملعقة أثناء الدراسة، وإن كل الذي توفره المعاهد والجامعات التي في غالبيتها قطاع تعليمي ربحي، خاص بدراسة وتأهيل الجانب النظري فقط. وقالت مس ايناس ان تدريب هؤلاء الطلاب وفق مستويات عالمية، يمكنهم الإحلال مكان العمالة الاجنبية التي احتلت مكان عملهم لأدائها الأفضل. وأضافت إيناس ان إيمانها بذكاء الشعب السوداني في التعلم شجعها على القيام بهذا البرنامج، والهدف منه تقليل الفقر بإيجاد وظائف وتقليص العطالة. وفي لحظات انتظارنا للطلاب بالمطار، أراد المسؤول عن تدريب الأجانب بمعهد الفيفي التابع لغرفة التجارة النمساوية هير د. رودلف، وضع لافتة بأسمائهم ورفعها حتى يتعرفوا عليه، ولكني طمأنته أني اعرف كل السودانيين ولا تقلق لهذا الشأن، وقبل ذهابنا الى المدينة التي سيتم بها التدريب قام هير رودلف بجولة سياحية صغيرة بالسيارة للمجموعة من خلال شارع الرينق «قلب الدائرة» التي تلتف حولها مدينة فيينا التي خططت في القرن السابع عشر على شكل دائري. وتجدر الإشارة إلى أن أشهر واعرق أحياء فيينا الحي الثالث الذي يعرف بآرسنال وهي كلمة تعني أرض الصناعات وفي «الرينق» توجد معظم فنادق فيينا كالهيلتون وانتركونتننتال والرديسون وغيرها. وخرج بنا هير رودلف الى الطريق المؤدي إلى المدينة كرمس التي سيتم بها التدريب، وتقع على نهر الدانوب في مقاطعة النمسا السفلى. وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة المركزية النمساوية عمدت إلى توزيع الثروات بين المدن، وبما ان اقتصادهم يقوم على الصناعة والسياحة، فإن المدن الفقيرة من الموارد الطبيعية التي تجلب السياح تقام فيها المعاهد والمدارس الفنية حتى لا تظل فقيرة وتهوي إليها أفئدة الناس. وأذكر أنه أثناء التدريب وفي واحدة من الجولات التي نظمها المعهد للمجموعة الى مدينة صغيرة لا اذكر اسمها، ولكن مدير المدرسة الذي اقلنا قال لنا ان هذه المدينة كانت في الماضي عبارة عن مخزن لتجميع البيرة الي يتم تصديرها إلى أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي، وكان الناس يبنون الأقبية تحت منازلهم حتى اضحت المدينة عبارة عن مخزن كبير، الى ان انتهي هذا العهد بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ثم أصبحت المدينة التي كانت من أغنى المدن في جمهورية النمسا من أفقرها، ففكرت الحكومة في إيجاد مخرج لها، فرمموا بعض المخازن المتهدمة واوجدوا داخلها رسومات عن بعض القصص كسفينة نوح والفراعنة ومريم وغيرها. والغريب انك تدخل من جانب الكنيسة وتخرج بنفق يفضي بك الى المطعم التابع لمدرسة الفندقة الموجودة، وبالتالي تكون قد دفعت أكثر من ثلاثين يورو ثمنا للسياحة والغذاء، وبالتالي تكون قد ساهمت في تحسين اقتصاد المنطقة. أما مدينة كرمس فكانت مدينة أنيقة يتميز أهلها بطيبة فائقة، وقد رحبت المدرسة العليا للسياحة والفندقة التي يلتحق بها الطلاب هناك بعد المرحلة الوسطى، أي في سن الرابعة عشرة، ليدرسوا بها أربع سنوات سياحة وفندقة، وسنة خامسة بمثابة السنة النهائية في التعليم الأساسي، حتى إذا اختار الطالب الدراسة الجامعية يكون قد حمل الشهادة الثانوية التي تؤهله لدخولها، حيث رحبوا جميعا بالوفد السوداني ترحيبا حارا، اذ انه الوفد الإفريقي الوحيد الذي زار المدرسة، ولفترة تدريبية لمدة شهر طافوا فيها على جميع أقسام المدرسة. في ختام الفترة أقامت المجموعة برنامجاً تعريفياً عن السودان، اشتمل على معرض منتجات محلية وعرض فيديو ديسكفر سودان، أي اكتشف السودان، بالإضافة إلى أغانٍ مصورة من مختلف أنحاء السودان. وكان الشراب الحاضر الكركدي بلونه الأحمر المتوهج. واذكر انه في التدريب على المشروبات وأنواعها وطرق تقديمها، قام أحد الشباب بتجهيز عصير كركدي، ولكنه لم يستطع ترجمة كلمة كركردي إلى اللغة الألمانية التي يتحدثها النمساويون، فتأخرت عن الترجمة قليلا لوجودي في جانب آخر من المعرض، وعندما حضرت قابلني هير سايلار الذي يتحلي بروح الدعابة يحمل كوباً من الكركدي، فكان يردد «كركدي سوبر»، فقلت له لا بد أن «العوض» قد علمك كلمة «كركدي» بدلا من أن يتعلم هو كلمة «هبسكس» بالألمانية، وكان العرض قمة في الروعة، وقدم صورة رائعة عن السودان بمختلف تراثه وحضارته.