لاشك أن التعليم العالى يلعب دورا هاما فى نهضة الأمم وتقدمها و تعتبر جودته -ضمن أشياء أخرى- مؤشرا لتقدم الشعوب .فهو الذى يوفر الكادر البشرى المؤهل فى شتى التخصصات والذى بدوره يضطلع بتقدم الشعوب ورفاهيتها. ولعل تجربة الدول الآسيوية فى جنوب شرق آسيا ومعجزتها الاقتصادية التى حققتها فى فترة وجيزة خير دليل على ذلك. وفى السودان كثر الحديث فى الآونة الأخيرة عن تدهور التعليم العالى ومخرجاته بشكل أدى لفقدان الثقة فيه.وقد نالت مؤسسات التعليم العالى الخاصة قسطا كبيرا فى الانتقاد من المهتمين بمخرجات العملية التعليمية وبالتالى لابد من تسليط الضوء على الخلفية الحقيقية التى أدت الى هذا التدهور المريع.وفى البداية أحب أن أؤكد أن انتشار الجامعات الخاصة هو ظاهرة عالمية لاتقتصر بالطبع على السودان.وهى تأتى ضمن النظرة الاقتصادية الحديثة التى اجتاحت العالم فى مطلع ثمانينيات القرن الماضى والتى أسست لسياسة الخصخصة فى كافة قطاعات الاقتصاد والتى عرفت وقتها بالتاتشرية(Tatcherism) نسبة لتاتشر-المرأة الحديدية المعروفة.وفى السودان مثل برنامج السيد عبد الرحيم حمدى وزير المالية الأسبق والذى عرف وقتها ببرنامج الانقاذ الوطنى-تمشيا مع زخم الانقاذ فى الفترة 1990-1993 بداية الانطلاق.حيث أن البرنامج وما تبعه من سياسات حتى اليوم أطلق العنان للقطاع الخاص فى كافة المجالات بمافيها قطاع التعليم العام والعالى.وبالتالى أدى هذا الى ظهور هذا الكم الهائل من الجامعات والكليات الخاصة. وهنا نجد ضرورة لتقييم التعليم العالى ومخرجاته وبالذات فى مؤسسات القطاع الخاص أو التعليم الأهلى كما يحلو لوزارة التعليم العالى تسميته.وفى البداية أؤمن على أن تقييم مخرجات التعليم العالى فى السودان يجب ألا تقتصر على مؤسسات القطاع الخاص بل يجب أن تشمل أيضا الجامعات الحكومية لأنها ليست بأحسن حالا من الجامعات الخاصة ان لم تكن أسوأ منها!!ففى ظل ماعرف بثورة التعليم العالى، والمسؤولة عن تخريبه بصورة أساسية،فقد قامت الكثير من الجامعات الحكومية فى الأقاليم فى مبان حكومية أقل من متواضعة بكثير كانت تتبع أصلا لمراكز بحوث أو حتى مدارس ثانوية عليا ولازالت بعضها تقبع فى هذه المبانى المتهالكة وتعانى عجز الموارد المالية اللازمة لتنميتها وبناء البنيات التحتية الضرورية لأدائها من مبانى ومعامل وقاعات وخلافه.وبالتالى فليست الجامعات الخاصة وحدها هى التى تفتقر للبنيات الأساسية. ثم أن هدف تحقيق الربح هو الآخر لم يعد قاصرا على الجامعات الخاصة وحدها بل وامتد بقوة الى الجامعات الحكومية فيما عرف بالقبول الخاص.فقد حدثنى قريب لى عن قبول ابنته فى كلية الطب فى إحدى الجامعات الحكومية الإقليمية على النفقة الخاصة وبمبلغ 10 مليون جنيه فقط لاغير فى العام!!!!وبمقارنة بسيطة أجد أن كلية الطب فى جامعة خاصة مثل جامعة السودان العالمية-و التى أعمل بها وأعرفها جيدا- أرخص من هذه الجامعة الحكومية!فالفارق فى المصاريف الدراسية قليل جدا.والمفارقة أن كل عام تواجه فيه الجامعات الحكومية مشاكل التمويل من موازنة الدولة تجد نفسها مضطرة لأن تزيد من نسب القبول الخاص على حساب القبول العام طبعا.وباستمرار المعدل الحالى سوف تجد الجامعات الحكومية نفسها قريبا قد تحولت الى قطاع خاص تلقائيا!!وأنا حقيقة لاأرى مشكلة فى أن يكون تحقيق الربح هو الهدف الأول فى قطاع التعليم العالى الخاص.فتحقيق الربح يوفر لهذه الجامعات الخاصة الموارد المالية اللازمة التى تحتاجها لبناء البنية التحتية(Infrastructure)من معامل وقاعات دراسية ومشارح...الخ لازمة لتجويد العملية التعليمية.ولمدة تسع سنوات كنت أعمل بجامعة عجمان بالامارات العربية المتحدة وكان شعارها هو:تعليم-استثمار-معلومات!!كما أن تحقيق الربح ظل وسيظل هو الهدف الأول والمحفز للقطاع الخاص لارتياد دنيا الأعمال المليئة بالمخاطر.فهو مكافأة لتحمل هذه المخاطر كما أنه يتناسب مع غريزة الانسان والشريعة الاسلامية السمحة حيث قال الله تعالى»وأحل الله البيع وحرم الربا».فالبيع ليس غاية فى حد ذاته وانما بهدف تحقيق الربح المعقول.واذا كان المقصود هو المبالغة فى المصروفات الدراسية فهذا ليس صحيحا.فبعض الجامعات الخاصة ومنها جامعة السودان العالمية-لازالت تفرض رسوما رمزية على الطالب وبالذات فى كليتى الاقتصاد والعلوم الادارية.وحتى مؤسسات القطاع الخاص التى تفرض رسوما مرتفعة نسبيا مثل جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا فهو أمر مبرر فى ظل التدريب عالى الجودة الذى توفره الجامعة من خلال برامج مشتركة مع جامعات أجنبية تكلف الكثير.ثم أن الجامعات الخاصة لاتستطيع تحقيق أى أهداف أخرى ضمن مايعرف بالمسؤولية الاجتماعية(Social (Responsibility من خلق وظائف وإجراء البحوث...الخ من دون تحقيق أرباح مجزية يجعلها قادرة على الصرف على هذه البنود. ولكن من المؤكد أن هناك ضرورة لاصلاح التعليم العالى بشقيه الحكومى والخاص على حد سواء من حيث ضبط الجودة.وفيما يلى أسترسل فى كيفية عملية الاصلاح هذه.وأول من يلعب هذا الدور هو وزارة التعليم العالى والبحث العلمى.فقد أنشأت الدولة وزارة خاصة بالتعليم العالى ولها وزيران بالتمام والكمال يمثلان شريكى الحكم.كما أنها الآن تمتلك مبنىً زجاجياً ضخماً ومتعدد الطوابق بالقرب من جامعة الخرطوم. * عميد كلية العلوم الإدارية بجامعة السودان العالمية [email protected]