شهر ونصف الشهر تقريبا وتصل البلاد إلى أحرج منعطف تعرفه منذ استقلالها في عام 1956م، يتجسد في توجه ابناء جنوب السودان لصناديق الاستفتاء للبت في أمر بقائهم مع بقية أجزاء السودان أو الانفصال عنها، وتكوين دولتهم الخاصة بعيدا عن أي رباط إلا بالقدر الذي يوفره الجوار وما يحتمه تبادل المنافع والمصالح المشتركة. ولعل اكبر الأبواب التي يمكن أن ينساب من بين ثنايها التعاون هو باب الاقتصاد والاستثمار، فالحكومة القائمة بالخرطوم منذ بواكير عهدها الأول لم تدخر وسعا في بذل كل غالٍ للنهوض باقتصاد البلاد، وكل ما من شأنه تسهيل تدفق الاستثمارات الخارجية وتشجيع المستثمرين بالقطاع الخاص المحلي بإعلان حزمة من التسهيلات وبسط الحوافز، بغية تمهيد الطريق للمستثمرين بتخفيض الرسوم والضرائب المفروضة على المشاريع الاستثمارية، وتطبيق طريقة النافذة الواحدة لإكمال الإجراءات درءا للبيروقراطية والتعقيد الذي كان سائدا، وفوق ذلك كله فك الاشتباكات والتقاطعات التشريعية بين مستويات الحكم، لا سيما في ما يختص بالأراضي وفرض الرسوم والجبايات، وعينت مجلساً أعلى للاستثمار بالبلاد يقف على قمة هرمه رئيس الجمهورية ونائبه ولفيف من الوزراء وكل ولاة الولايات، بجانب الخبرات الوطنية في المجال الاقتصادي، بيد أنه بالرغم من الاهتمام المتعاظم الذي بذلته الدولة لجذب الاستثمارات، فإن المتابع يجد أن وتيرة تدفق الاستثمار لم تكن بالصورة المرجوة والمرسوم لها، ولا تتماشى مع حجم التسهيلات المبذولة لها من قبل الدولة، وتعالت وتيرة مخاوف المتابعين من تناقص غلة الاستمثار بالبلاد على علاتها بعيد استفتاء تقرير مصير جنوب البلاد إن لم يفض إلى أمن واستقرار، بغض النظر عن نتيجته، وسوف يزداد تدفق الاستثمارات إلى الداخل حين الوصول إلى الأمن والاستقرار الاقتصادي المنشود، وطالب عدد من الخبراء الاقتصاديين بضرورة تنزيل توصيات اجتماع المجلس الأعلى للاستثمار أخيراً إلى أرض الواقع، وأن تكون للمجلس هيبة ووجود فعلي بكافة مستويات الحكم لمتابعة توصياته. ومن جانبه يقول البروفيسور عصام بوب إن خيار الاقتصاد السوداني الأول هو التوسع في الاستثمارات الأجنبية في ظل الحصار الاقتصادي المفروض عليه، وفي ظل عدم تجاوب مؤسسات التمويل الدولية مع المشروعات التنموية الكبرى بالبلاد، وتوقع أن يشهد السودان هجمة استثمارية كبرى عقب انتهاء استفتاء الجنوب، بغض النظر عما يسفر عنه من وحدة أو انفصال، لأن المستثمرين يرقبون الوضع الحالي بتوجس، وينتظرون بفارغ الصبر انتهاء الاستفتاء المفضي إلى استقرار أمني سياسي اقتصادي، وإلا فإن نفورهم سيزداد إن تعقدت الأمور أكثر وعادت البلاد إلى مربع الحرب والاضطرابات الأمنية. وأضاف لأجل هذا من هنا تنبع أهمية انعقاد اجتماعات المجلس الأعلى للاستثمار في هذا التوقيت، واشترط لتفيؤ البلاد ظلال ما تمخض عنه من توصيات وقرارات، أن تتنزل توصياته إلى أرض الواقع بأن تكون ملزمة لكافة مستويات الحكم، لأن تنفيذها بصورة جيدة بحسب رأيه يمثل اللبنة الأولى لتهيئة مناخ استثماري طيب يغري بتدفق المزيد من المشاريع، وحتى يتم ذلك طالب بوب بتكوين آلية لمتابعة تنفيذ قرارات المجلس على أرض الواقع، وعتب على المجلس بأنه في الفترة السابقة لم يؤدِ دوره كاملا رغم ترؤس رئيس الجمهورية له، وقال ينبغي أن يكون المجلس قادرا على حسم كل القضايا العالقة بين المستثمرين والولايات، وطالب بأن تكون للمجلس أذرع بالولايات والمحليات لحل كافة إشكالات المستثمرين عن كثب، وطالب كذلك بإعادة النظر في الرسوم والضرائب، وأن يعفى المستثمر منها كلية في مرحلة البدايات شريطة التماس جديته، وأن يكون استثماره بأموال مقدرة في مشروعات تفيد الاقتصاد السوداني في القطاعات التي تحتاجها الدولة، وألا تكون النظرة مركزة في الحصول على الإيرادات الحالية، بل لمقدار العمالة ومدى قدرة المشروع على زيادة الناتج المحلي الإجمالي بالبلاد، ومدى مساهمته في تحقيق الاكتفاء الذاتي في الحقل الذي يعمل فيه، وإلى أى مدى يمكن أن يسهم في زيادة العائد من العملات الحرة للخزينة العامة. ودعا المحاضر بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا الدكتورعبد العظيم المهل إلى إصدار حزمة قرارات شجاعة تصب في اتجاه تشجيع الاستثمار الخارجي بالسودان بالتدرج في الحوافز والاستثناءات، بحيث تعتمد في حجمها على حجم تمويل المشروع المعين الذي يطلب المستثمر إنشاءه، فكلما زاد رأس مال وتكلفة المشروع زيدت له الإعفاءات والاستثناءات، علاوة على نوع القطاع الذي يرى المستثمر الدخول فيه، فالذي يستثمر في القطاع الزراعي يُمنح إعفاءات أكبر من التي تمنح للمستثمر في قطاع الخدمات والصناعات بهدف تشجيع الاستثمار الزراعي الذي تمثل نسبة الاستثمارات الحالية فيه 2%، وبالقطاع الصناعي 33%، وأكبرها في قطاع الخدمات حيث وصلت نسبة الاستثمارات فيه الى 65%. وطالب المهل بزيادة الحوافز الاستثمارية للقطاع الزراعي حتى تستقيم المعادلة ويتم تصحيح الصورة المقلوبة في بلد يتمتع بموارد زراعية كبيرة، مع أخذ موقع المشروع في الاعتبار، فكلما ابتعد موقعه عن المركز زاد حجم التسهيلات له لتشجيع التنمية بالولايات، كما أنه من الأهمية بمكان أن يتم التوقف عند حجم العمالة المحلية التي يمكنها الاستفادة من المشروع في ظل الأزمة المالية العالمية. وأضاف يجب ألا يتم نسيان حجم إسهام المشروع الاستثماري في زيادة حجم الصادرات وإحلال الواردات، فكلما كبر دوره زادت له السلطات المختصة حجم التخفيضات والإعفاءات وكافة أشكال التسهيلات. وشدد المهل على ألا يغفل دور المشروع في التنمية المحلية وقدرته على دحر جيوش الفقر بين المواطنين المحليين. وقال المهل إن طبيعة تكوين المجلس تمنحه ميزة كبيرة لزيادة فاعليته وقدرته على تشجيع الاستثمار وتذليل كافة الصعاب التي تعترض طريقه من إجراءات وتشريعات، وبالتالي سرعة إنجاز كافة المعاملات والإجراءات المتعلقة بالمشروع عبر تفعيل نظام النافذة الواحدة وفك الاشتباكات القانونية والتشريعية بين مستويات الحكم المحلي. وأعرب المهل عن أسفه لهروب كثير من المستثمرين العرب إلى مصر وإثيوبيا، وقالت إن هناك حاجة ماسة لإعادة ترتيب أوراق القطاع الاستثماري لجذب المزيد من الاستثمارات الجديدة في عام 2011م، لتعويض الفاقد من عائدات النفط في حالة انفصال الجنوب.