«العفش داخل البص على مسؤولية صاحبه» عبارة سادت ثم بادت، لم يكن يخلو منها حتى وقت ليس ببعيد أي بص من البصات السفرية في مشارق السودان ومغاربه ومن أقصاه إلى أقصاه، كان أصحاب هذه البصات وسائقيها يحرصون على كتابة هذه العبارة بخط واضح وجميل على جانبي البص من الداخل قبل أن يدشنوا عمل بصهم الجديد بأي خط من الخطوط السفرية، يبدو أن للحرص على ضرورة وجود هذه العبارة داخل البص سبب قوي جعل سائق وكمساري أي بص يتبرأون من المسؤولية عن أي عفش لا يوضع تحت إشرافهم على سطح البص، المؤكد أن هناك سبب ومناسبة جعلت سائقاً ما يفترع هذه العبارة ليتبعه الآخرون فتطبق شهرتها الآفاق، إحدى الاجتهادات تقول أن أحد ركاب البصات بعد زمن وجيز من ظهورها كان يحمل معه مخدرات لفّها بعناية داخل بطانية ووضعها على الرف داخل البص وفي إحدى محطات التفتيش صعد الشرطي إلى البص وبدأ يتجول بين الركاب ويجيل النظر في ما حملوه من محتويات داخل البص على الارفف أو تحت المقاعد، حاسته الشرطية جعلته يرتاب في تلك البطانية فجذبها فاذا بقناديل من البنقو تتساقط من داخلها، فصاح في الركاب، من صاحب هذه البطانية، لم يجبه أحد، كرّر السؤال مثنى وثلاث، وأيضاً لم يجبه أحد، فاتجه بالاتهام إلى السائق، ولكن شاء حظ السائق السعيد أن ينتبه في تلك اللحظة أحد الركاب وكان من أهلنا الفلاتة لهم التحية، وكان غافياً وغافلاً عما يدور، وقد وضع رأسه بين ركبتيه، لم يعرف من هو السائل بل أدرك فقط من السؤال الأخير أن هناك بطانية لم يظهر لها صاحب، فصاح مع آخر حرف من آخر سؤال وجهه الشرطي، إنها لي، وهكذا نجا السائق من الجرجرة والسين وجيم بينما وقع صاحبنا في شر غفوته، وبمجرد وصول البص محطته الأخيرة ذهب السائق إلى أقرب خطاط وطلب منه كتابة هذه العبارة التي خلدّها التاريخ.. الآن أنظروا إلى هذه العبارة «قرار المسيرية بتشكيل حكومة يخص متخذيه»، أليست هي نفسها «العفش داخل البص على مسؤولية صاحبه، مع الفارق ما بين حمولة بص وهموم وطن بأكمله، هذه العبارة المفارقة لأي مسؤولية والتي تحمّل المسيرية مسؤولية قرارهم بتكوين حكومة لها رئيسها ووزراءها ومستشاريها، حكومة كاملة الدسم لا ينقصها سوى العلم والنشيد الوطني، لا يتورع الدكتور ابراهيم غندور المسؤول السياسي بحزب المؤتمر الوطني الذي يدير حكومة البلاد أن يقول بلسان الحال والمقال، إذا كوّن المسيرية حكومة داخل حكومة واصبحوا دولة داخل الدولة فهذا أمر لا يعنينا وإنما هو شيء يخصهم، والعتب هنا ليس على المسيرية الذين ربما يكونوا قد تعاملوا برد فعل غاضب على بعض المعطيات والمؤشرات، وإنما العتب على مثل هذا الكلام المعيب الذي لا يعني سوى أحد أمرين، إما أن الحكومة وحزبها كانوا وراء هذه «اللعبة» كتكتيك مضاد وتمت تحت رعايتهم ومباركتهم، أو أنهما لا يباليان حقيقةً بما يجري فتركا حبل أبيي على غارب المسيرية ليحلّوا معضلتها الشائكة بمعرفتهم، هذا أو ذاك فكلاهما تقدير خطل وخطر لن يحل مشكلة في تعقيد أبيي ولن يعفي الحكومة من مسؤوليتها بل سيزيد الأمور وبالاً وخبالاً قد تقود نهايته في أرحم التقديرات إلى تفتت الوطن إلى ست دويلات هذا إذا لم يتشرذم إلى عشرات المشيخات، ليت غندور اكتفى بنفي علمه بهذا التشكيل ولم يتعداه إلى ما يجعله شبيهاً بصاحبنا «الفلاتي» في نكتة «العفش داخل البص على مسؤولية صاحبه» وليحفظ الله البلاد...