اعتبر عدد من المختصين وأهل الشأن «التقشف» مخرجاً حقيقياً من محنة الاقتصاد السوداني، وذلك بتقليل الإنفاق الحكومى لأنه يساهم في الحد من مستوى الإنفاق العام وضبط المؤشرات الرئيسية للاقتصاد السوداني، فالانفلات في الصرف مع ضعف التكيف في ظل التغيرات العالمية والداخلية بالصورة المُثلى يزيد من حجم الفجوة، وأجمع بعض الخبراء على أن سياسية التقشف يمكن أن تنجح إلى الحد البعيد إذا بدأت الحكومة بتطبيقها على نفسها أولاً، ومن ثم تنزيلها إلى القواعد. حيث أثارت الدعوة التي أطلقها وزير المالية الأخيرة بشأن التقشف وعودة المواطنين إلى «الكسرة» التي تفوق تكلفتها «الرغيف»، أثارت ردود أفعال واسعة في الشارع السوداني الذي عبر عن استيائه لهذه التصريحات في مجالسه الخاصة والعامة، تارة بالنقد اللاذع وأخرى بالفكاهة، بعد أن أطلق بعض «المسخراتية» على التقشف «كسرة الوزير»، إلا أن هذه الدعوة وجدت بعداً آخر على طاولة أهل الاقتصاد الذين نادوا بضبط الإنفاق الحكومي مع ما هو متاح من الموارد، مشيرين إلى أن سياسة منع الحكومة لبعض «الواردات» لا تكفى لسد الفجوة، في الوقت الذي توجد فيه آليات فعَّالة للدولة توصلها لنفس الهدف بطريقة مجدية. فترشيد الاستيراد لن يتم عفوياً، وإذا أرادت الحكومة ذلك عليها أن تبدأ بنفسها أولاً، لأنها هي التي تستورد أثاثات وعربات، والسؤال المطروح هل الحكومة في حاجة الى الكم الهائل من الاستيراد أم لا، فلن تجدي العفوية وحدها في معالجة الاقتصاد، إلا إذا توفرت الرغبة الحقيقية في الإصلاح. ومن جانبه دعا عضو البرلمان بالمجلس التشريعي لولاية الخرطوم عبد القادر محمد زين، إلى أن يكون عام «2011م» عاماً للتقشف بمعناه الحقيقي، طبقاً للظروف التي تعيشها البلاد. وقال يجب في العام القادم إيقاف الكثير من الصرف غير الضروري من الدولة أولاً ومن ثم من المواطنين، وذلك تحسباً لأسوأ الظروف. وأضاف «نريد تقشفاً حقيقياً من الرئاسة الى أسفل، وأن تكون الميزانية القادمة لخطة العام الجديد دقيقة جداً، لأن الواقع الاقتصادي محزن وغير مبشر وآثاره تبدو واضحة في الغلاء الذي توقع أن يطول السلع الأخرى نتيجة لتبعات الاستفتاء». وأكد الخبير الاقتصادي الدكتور عبد العظيم المهل أن برامج التقشف في البلاد دائما ما تطول مجال الخدمات خاصة التعليم والصحة ولا تصل إلى الوزارات السيادية، وهذه الوزارات لها مقدرة عالية في استخدام كل الوسائل لأخذ حقها في الوقت الذي توجد فيه وزارات مهمشة في مواردها تقوم بجهود جبارة للحصول على حقها في الميزانية، وتستغرق زمنا كبيرا في انتظار وزارة المالية لتنال حقها، وامامنا التجربة البريطانية الاخيرة لترشيد الانفاق الحكومي، ومثال لذلك نجد رئيس الوزراء ديفيد كاميرون قد أصرَّ على أن تبدأ الحكومة بنفسها في سياسة التقشف، ومن ثم توجِّه بعد ذلك سياستها المتبعة إلى القاعدة الشعبية حتى يمهدوا الطريق امام سياسة التقشف التي رحب الجميع بفكرتها، بعد أن بدأت بالمؤسسات السيادية والحكومية. وقال المهل إن الاحباط يصيب المواطنين عندما يتم تخفيض خدماتهم، في الوقت الذي يتمتع فيه المسؤولون بالسفر وحضور المؤتمرات والمهرجانات والدفع بالدولار وآثار النعمة تبدو عليهم، والبسطاء يعانون من غلاء الأسعار والظروف الاقتصادية الطاحنة التي أرهقتهم، ويصل الإحباط إلى حالة سيئة جدا لأن التقشف يقع على المنتجين الحقيقيين من العمال والزراع والصناع وأصحاب المهن الهامشية، فهم تقشفوا بما فيه الكفاية، ودفعوا نصيبهم في الترشيد الحكومي منذ زمن. وأضاف المهل مثالاً لضرر التقشف دون دراسات جدوى، متمثلاً في انعدام المواصلات في الأيام الفائتة بعد تطبيق اللائحة الجديدة للتسويات المرورية، وتم رفع الغرامات إلى مبالغ طائلة. وأوضح أن سياسة الترشيد التي يدعو لها البعض يمكن أن تنجح إذا بدأت الحكومة بنفسها من أعلى لأسفل، وفي حالة «العكس» واتباع هذه السياسة بالمقلوب فلن يكون هنالك معنى لتطبيق الترشيد والتقشف. وطالب المهل بأن تتم السياسات المالية والنقدية بصورة منطقية، بعد بحوث علمية متعمقة وبإلمام كامل بكل الظروف، تفاديا للآثار السالبة التي يمكن أن تنتج عنها. وأوضح الاقتصادي صديق كبلو أن التقشف الحكومي يعني أن ترشد الحكومة نفسها أولاً وتحدد اولويات صرفها، والالتزام بذلك بصورة منضبطة، ولا يكفي فقط أن ترفض شراء الأثاثات للموظفين التابعين لها، وهذا قرار غير عقلاني إذا كان القصد منع الحكومة من استيراد الأثاثات من الخارج لأنه مكلف وميزانيته «235» مليون في العام، والمقصودون بهذا القرار هم التجار المختصون وأصحاب معارض الأثاثات، وهنا يكون القرار ايجابيا لأنه سيدفع بتطوير صناعة الأثاثات التي أغلقت ورشها منذ فترة، في الوقت الذي نجد فيه تشدد الصناع والمقاولين قد وصل الى استيراد الأبواب والشبابيك من الخارج، فهو أمر قد أضرَّ بشريحة النجارين وأهل الخراطة والحدادة، إلا أن الحكومة لم توقف الاستيراد بل اهتمت برفع الرسوم الجمركية، وهذا لا يؤثر على كمية النقد الأجنبي، لأن الذين يشترون من المستطيعين لن يتضرروا اذا ارتفعت القيمة الى 10% او 20%، لذلك كان من الأجدى منع الاستيراد من الخارج لهذه الأشياء لعدم وجود حاجة لها، مما يساهم في تشجيع الصناعة الوطنية ومن ثم توفير النقد الأجنبي. وتوقع كبلو في حال الانفصال مع الاستمرار في استيراد الكماليات والمتطلبات التي وصفها بالتفاخرية التي يقبل عليها الأغنياء، أن يخسر الفقراء أكثر من الوقت الحالي في ظل هذه المعادلة غير المتوازنة، بل ستؤدي المنافسة الى ارتفاع أسعار الدولار وانخفاض الجنيه. وأشار إلى أن القضية تتعلق بالميزانية والإيرادات وترشيد الصرف على النقد الأجنبي. وقال «إننا لم نستوفِ متطلبات التنمية، فمن أين سنأتي بالنقد الأجنبي». وأضاف أن الأمور تحتاج إلى موازنة دقيقية بين الاحتياجات والكماليات والصرف على الأولويات، فمثلاً أن نشتري أسلحة بقيمة عشرة ملايين دولار في الوقت الذي يحتاج فيه قطاع الصحة والتعليم الى ميزانية كبيرة ويحتاج الى صرف ومعالجات إسعافية. وأوضح كبلو أن ذلك لا يعني أننا ضد التسلح وتأمين المصالح القومية، بل يعني ذلك الموازنة العادلة في توزيع الميزانية وتنظيم أسبقيات الصرف من النقد الأجنبي بصورة أفضل، وهذا يحتاج الى التدخل بشكل إيجابي من الحكومة في تحديد الواردات. وقال كبلو إن مسألة التجارة المفتوحة والحرة لا تتلاءم مع بلد مصادره من النقد الأجنبي محدودة، لأن المنافسة ستصبح بين السلع الضرورية والكماليات، وأضاف قائلاً إننا مازلنا نحتاج إلى كل دولار من النقد الأجنبي، لتمويل السلع الضرورية والاستثمار.