٭ أهداني الأخ المهندس محمد الطيب التوم نسخة من كتابه القيم «وقائع التصرف في أراضي السودان» والذي صدر حديثاً. والكاتب مهندس وخبير في شؤون الاراضي، وعمل في إدارت مختلفة مرتبطة بالاراضي وتخطيط المدن والمرافق العامة، وكان مديراً عاماً لاراضي الخرطوم، ووكيلاً لوزارة الإسكان والمرافق العامة. لكل ذلك فإن الكتاب جاء موسوعة متكاملة عن الاراضي ومشكلاتها وتطور التعامل معها واستخداماتها وشؤون الاسكان والاستثمار والعمران.. وحكى عن تجارب ثرة عايشها الكاتب ردحاً من الزمن، ومن خلال ذلك قدم ملاحظات مهمة. وجدير بكل مهتم أو متعامل مع شؤون التخطيط العمراني والحضري أن يضطلع على الكتاب. وللحقيقة فإن قيمة الكتاب الكبرى تأتي من سرده المحكم والمنطقي لتطور التعامل مع الاراضي انطلاقاً من فلسفة الحكم السائدة، حيث استعرض الكاتب نظرة العهود المختلفة للأرض منذ عهود دويلات السودان القديمة من عهد بعانخي وترهاقا، مروراً بعهود الحكم الأجنبي المختلفة في السودان، العهد التركي الاول والعهد الثنائي البريطاني المصري وفترة المهدية ثم الحكم الوطني. وجاء الكاتب واضحاً ومفصلاً في نظره ومنطلقات فلسفة الدولة ونظرتها للاراضي، وتحدث عن كيف كانت نظرة العهود القديمة للارض كسيادة سلطانية يتصرف فيها الحاكم ويهب الأرض للمتفق العام، وتطور استخدامات الاراضي والعمران الحضري وتقسيم الارض الى زراعية وسكنية، وكيف خص بعض الحكام في بعض العهود اصحاب الدستور والسلطان بالاراضي وتملكها، وكيف ساهمت بعض العهود الاستعمارية في استمالة الزعماء لصفها من خلال منحهم وتخصيص الارض الاستثمارية لهم في شكل هبة للمشاريع المختلفة. وتعرض الكاتب لفترات الحكم التركي ونزعه لاراضي بعض المعارضين للحكم، مثل المك نمر وارض شندي، وكيف استحوذ بعض المقربين من السلطة في ذلك الوقت من خلال وشايات معينة للحصول على الارض، من خلال توثيق دقيق للأحداث وبتسلسل منطقي مقنع ومفصل. لقد أبان الكاتب بشكل جيد أيضاً نظرة دولة المهدية للأرض، وكيف حاول البعض الاستحواذ على الاراضي في بعض المدن، عكس ما كانت تدعو له القيادة في الدولة، مما حدا بالحكام في عهد الحكم الثنائي الى استخدام سياسات النزع لاعادة الارض لاصحابها. وكذلك استعرض الكاتب فترة تجارة الارض في ذلك العهد، وكيف شارك فيها كثير من الاجانب، مما جعل اسعار وحركة الاراضي في السودان تتأثر بما كان يدور من حراك اقتصادي في الدول الاخرى، مثلها مثل حركة اسواق المال اليوم. أيضاً تعرض الكاتب بالتفاصيل بوصفه معايشاً لفترة الحكم الوطني منذ الاستقلال، فاستعرض الحكم الوطني الاول وفترة مايو حتى حكم الانقاذ الحالي، والتطور التشريعي والديواني الذي ساد كل عهد.. ومازال الكاتب يركز على ان فلسفة الحكم هى التي تحدد مسار ومنطلقات سياسات الحصول على الارض للاغراض المختلفة، وكيف قدم للبلاد خبراء من دول مختلفة، منهم من جاء من اليونان وفرنسا واستراليا وبريطانيا، وكيف استقدمت الدولة خيرة خبراء التخطيط العمراني في فترات ما لوضع أسس التصرف في الاراضي، ووضع الخرائط المهمة للمدن. وافضل ما جاء في الكتاب الحديث العلمي المرتب حول ضرورة التعامل المسؤول مع التخطيط العمراني واعمال السياسات المنهجية التي تصاحبها النظرة المستقبلية والعلمية في تخطيط وتخصيص الاراضي. أيضاً تحدث الكاتب عن التدخلات السياسية في مراحل مختلفة أفرزت مشكلات السكن العشوائي ومشكلاته الاجتماعية وغيرها، وكيف أن التطور السكاني والهجرة الى المدن بحاجة الى نظرة علمية تستفيد من تجارب دول العالم الاخرى في معالجتها للظاهرة. كذلك تحدث الكاتب عن دور الدولة في الإسكان الشعبي والجماعي ومحاولات منظمة الاممالمتحدة والجهات الاقليمية الاخرى في بسط ثقافة السكن الصحي المناسب، رغم أن محاولات الدولة وامكاناتها المحدودة تقف عائقاً دون حل كل مشكلات السكن، مما يتيح الفرصة للمؤسسات العقارية والقطاع الخاص للعب دور مهم ومكمل في مجال توفير السكن الملائم. لقد أعجبني الكتاب ايما اعجاب وسرني ان يوجد مثل المهندس محمد الطيب المشهود له بتجويد العمل عندما كان في موقع العمل الحكومي، وسرني أن يبرهن ايضاً انه متفوق في السرد والكتابة المنهجية، وقادر على إبراز معلومات ثرة جمعت بين التاريخ والفقه والقانون والاحصاء في شكل منسق ومرتب.. وبصبر وجلد اتاح له جمع هذا السفر الذي يقع في اكثر من «005» صفحة جيد العرض واضح الهدف.. واقترح على كل مهتم بالتخطيط العمراني وشؤون السكن والعمران الاضطلاع عليه.. لا بل حتى المهتمين بتطور السودان وتاريخه. شكراً للمهندس محمد الطيب التوم على هذا الجهد الجبار، وبالتأكيد قدم تجربة قيمة وقد أخرج لنا مثل هذا السفر العظيم.