(مع النضج وما يصاحب النضج من دقة التحليل وصحة النظر، «يتأكد» ان البديهية الاولى في تطوير الشعوب هي ان يكون ذلك التطوير «منبثقا» من «ارادة الناس» فليس الشعب «قطعة من الصفيح» يشكلها الصانع بادواته على اي صورة اراد») د. زكي نجيب محمود العصر وثقافته ص 79 «1» الذي يتابع ماجريات الاحداث، كما تعكسها اجهزة الاعلام المحلية والاقليمية والدولية يستطيع في بساطة وبعد ان يفرق بين السم والدسم ان يصل لنتيجة ان «السودان» صار يمثل «كرة من نار» تتقاذفها في دهاء ومكر المؤسسات الاستخبارية للنظام الدولي، ولادواته المختلفة ولا يغيب عن نظر المدقق ان ساعة الصفر التي يهيأ لها او «المضروبة» هي لحظة استفتاء «اهل جنوب السودان» على تقرير المصير، في 9 يناير 1102 وما يترتب على لحظة الاختيار الصعب تلك من تداعيات، وهي تصب وبالضرورة المدروسة في خانة إحداث البلبلة بهدف خلخلة وضرب كل ملامح الدولة بمفهومها الدستوري والسياسي والاستعداد بالتالي للتدخل بالمبررات المعلومة. هذا التصور ليس بعيدا عن الادراك الثاقب لمجريات المسائل، فقد ظلت «المشاكل» تتراكم على اختلاف انواعها ودرجاتها، حتى شكلت من «اعراض» جلطات الدماغ والسكتات القلبية، ما استدعى وبرر الخروج من دائرة الوطن، بامكانات «دروسه التاريخية» الى حضن المؤسسات والدول اقليميا ودوليا وهي تفاصيل لا معنى لاجترارها فقد صارت نتائجها واقعا، ترمي بظلال ارهاصاتها قبل ان تبدأ البراكين والزلازل في الحديث عن اخبارها. «2» «السودان» هذا الممتد طولا وعرضا ومنذ عام 1882، لم يكن بأي حال من الاحوال بعيدا عن اسباب الفرقة والتناحر والانفصال، وهو دولة مصنوعة، وقد فسر «بيتر وود ورد» في كتابه «السودان الدولة المضطربة» ذلك بل انه قد قرأه تماما وغاب للاسف عن اغلب القوى السياسية التي نشأت في اعقاب الحرب العالمية الثانية، طبيعة المكونات العرقية والثقافية في تخوم البلاد واستكانت في لا مبالاة الى مناورات السلطة «فقط انذاك» ولم تشغل بالها بغير «الكيد والكيد المضاد» بين اصوات الثقة، ولعبة الانتخابات، وتدبير الانقضاض بليل باسم القوات المسلحة «مؤسسة» او «نخبا» اختلفت رؤاها، وكان الناتج وفي كل الاحوال «حصادا مرا» وان شابته انجازات واعدة ونوايا طيبة تخللها للاسف الشديد كثير من الدمار النفسي والعضوي، باسم «اندفاعات» يعود بعدها الوعي صحوا والنضج رشدا، ولكن للاسف كذلك بعد ان تكون الكثير من الامكانات المادية والمعنوية قد اهدرت تراخت وتراجعت لتسجل مجتمعنا ضمن آخر قوائم ترتيب دول العالم في جداول التنية وتوسيع مجال الحريات وحقوق الانسان ودرجات التقدم «ويهم هنا ان نثبت ان ترتيب السودان في تقرير التنمية البشرية لسنة 2010 العدد الخاص في الذكرى العشرين، قد كان رقم 154 من 169 دولة بمتوسط نسبة تنمية بشرية منخفضة وسوف نعود لتفاصيل ذلك في مقام قادم ان شاء الله. يبدو لنا بعد قراءة جادة ان الازمة التي ظل الوطن يعاني منها وندفع ثمنها تأخرا ودمارا هي: غياب مفهوم المشاركةParticipation غياب مفهوم المؤسسة «والدولة في الفقه الدستوري» هي مؤسسة المؤسسات The Institution of The Institutions ولقد يرتبط ذلك تماما بضعف الوعي الفكري والممارسة غير السوية باسم شعارات افتقدت في جوهرها «الضبط العلمي» ولن يكون ذلك بعيدا بالقطع عن غياب او اقصاء او ضعف المثقف المؤهل لممارسة السياسة والادارة كما ان المفهومين يقومان وعلى نحو اساسي على المشروع الديمقراطي باعتباره الامل المرتجى من الخروج من «دوامة الازمة» المتطاولة المتجددة وهو بعد الخيار الامثل الذي يستوعب قدرات وارادة المواطنين في صنع القرارات المصيرية «سيادية خدمية». ان «الواقع المر» الذي افرزته «الازمة» يطابق تماما وصفا للاستاذ الدكتور كمال عبد اللطيف، استاذ الفلسفة في جامعة محمد الخامس في المغرب، فقد اورد في ورقته في منتدى الفكر العربي بعمان 2009 «ان السمة الملازمة لواقعنا السياسي يعكس شيخوخة انظمتنا السياسية: الشيخوخة السياسية، والشيخوخة الرمزية، لقد شاخت انظمتنا السياسية واصبحت عاجزة عن ايجاد المخارج التي تسعفها بتجديد نسق الحياة في روحها وشاخت انظمة المعارضة بدوره وتجلت مظاهر شيخوختها في التوجهات التي ما زالت تحكم انظمتها وقوانينها في العمل، وهو ما يقتضي اعادة البناء بوروستريكا بالبحث عن صيغ جديدة في العمل السياسي والاداري. ان مشروعا اصلاحيا دستوريا واداريا هو الترياق اللازم لمواجهة رهق الشيخوخة واعراض الخرف والزهايمر!!» «3» «الاصلاح المحوري» المنشود، ليس مجرد خطاب، تتداوله ورش العمل والسمنارات، وتخنقه الميزانيات ويحتكره ارباب صناعة الكلام، المقصود بالاصلاح في محوري «المشاركة والمؤسسة» انقلاب «بمعني الكلمة» يطال العقل والوجدان بتدبير علمي ينهي ما تراكم من سنوات الخدر والانغماس في تبادل المصالح «الضيقة» باسم «المصلحة العامة» وما كان بؤس الفكر الا وليدا شرعيا لمدارس الاقصاء التي توالت على بلادنا، وما كان ضعف الاخلاق وركام الفساد الا دليلا قويا على الامعان في خدر ولذاذات التيه!! ٭ تقوم «المشاركة» على مفهوم «الدولة الموضوعية» ليست دولة «لويس الرابع» عشر الذي ربط الدولة «بالانا» ولا معاوية بن ابي سفيان الذي ربط الدولة بقوله «انا الزمان» ودولة المؤسسة الموضوعية تستند الى ارادة حقه ونهج سديد يتوخى التدبير الراشد بعيدا، عن اي طائفة او عرق او دين او جنس او قربى، «المؤسسة» قانون واجراء وضوابط وحساب ومساءلة ونقد واصلاح وتجديد والغاء وتعديل، ولقد بدأ افراغ المؤسسات القائمة من «موضوعيتها» ضربا من تحويلها الى «غنائم» يحكمها «المزاج» ولا يعدو القانون فيها مجرد الكلمات «الهايفة» والمؤسسة بعد تدبير له معايير الكفاءة والفاعلية والشفافية ولا يشغل وظائفها غير مؤهل بالفعل. ٭ «المشاركة» المؤسسية عبر الدستور والقانون مدخل منطقي لمواجهة ازمة «الشيخوخة» و«الخدر» وهي تدبير يقوم على «ميثاقي توافق سياسي وعدالة قانونية واجتماعية» اي دستور يلغي كل اوجه الافتعال في تاريخنا، ولقد شهد عالمنا علوا كبيرا للامم التي استطاعت ان تعيد فهم وقراءة وقائع تاريخها بينما تحجرت الشعوب التي فشلت في فهم وقراءة صيرورة تاريخها: اننا اكثر ما نكون حاجة الى خطوة جريئة تنقلنا من التقديس الاجوف لتاريخنا ونبذ اساطيره الى «خانة الفعل» وهو ذات ما عبر عنه المفكر الالماني «فنجته» 1762 1814 حين اورد انه لا يمكن «لامة» او «شعب» ان يعرف «ذاته» الا اذا تمكن من الدخول الى مسرح الزمن كقوة فاعلة، فضياع «جوهر» تلك الامة او الشعب يؤدي الى عجزها عن «التدخل» في الزمان ولن نخرج من حالة «السكون الحضاري» الا بشرط صريح هو ان نشهد ولادة عالم جديد، تسجل فيه بصمتها الخاصة» «جان جاك شيفاليته امهات الكتب السياسية ص 49 «4» تدخلنا في الزمان «بنفسنا» الخاص، ممكن ومتاح ونملك اسبابه تمام، بشرط القراءة الثاقبة «لاخطاء الازمة» ولقد يبدو مهماً ان نثبت ملامح ومفهوم «الازمة» حتى يسهل التشخيص. فالازمة لغة هي الشدة والقحط والعض بالفم كله وجمعها اوزام «القاموس المحيط» للفيروز ابادي، بيروت ، ط 5، ص 1390 المعجم الوسيط ص 71» وهي في المصطلح «خلل محوري يؤثر تأثيرا شديدا على النظام كله ويهدد دعائمة الرئيسة، وتطيح بقناعاته ومسلماته حيث يتراجع اليقين وتتراخى الثقة ولتتداعى الصراعات حين تغيب التوازنات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والامنية. و«الازمة» في كل الاحوال ارهاصات بداية نقطة التشبع والتفاقم وما يتبع ذلك من تداعيات، و«الازمة» التي يعاني منها «الوطن» ازمة مركبة بين الاقتصاد والاجتماع والتاريخ والجغرافيا والمحلي والدولي والاقليمي، ولقد يبدو من المهم «وهو دور فكري بحت» تشخيص الازمة والتعرف الى مظاهرها ونتائجها واسبابها والعمل علي تفادي مضاعفاتها» ويبدو لي، وهو اجتهاد قابل للدحض ان من معالم الازمة القديمة المتجددة: «شكل الدولة» وعلاقته بصيغة او اسلوب الحكم فقد كان لغياب المداخل المنهجية «المدخل الثقافي تحديدا» الدور الاساسي في تغيير ارادة اهل الجنوب تاريخيا وليحتكم هؤلاء فيما بعد للسلاح بدعم خارجي «يعادي توجهات النظام السياسي القائم» وقريب من ذلك تبدو «بؤر دارفور» وابيي، و«جنوب النيل الازرق» و«جنوب كردفان». الاقصاء غير المبرر والاحتكار غير المبرر للسلطة والثروة ولن تكون النتيجة في كل الاحوال عاجلا او آجلا غير رد فعل قاس، مساو في القوة ومضاد في الاتجاه. انتشار اشكال عديدة من الدخل غير المشروع النتاج من كل انواع ودرجات الفساد بتوظيف غير مسؤول للمواقع القيادية «ليس كلها بالطبع» في مفاصل الدولة وتحويل كثير من «مؤسسات الدولة الى لافتات». انتشار كثير من اوجه السلوك الاجتماعي غير المستساغة «خلقا ودينا» بغياب فضيلتي التواضع والتجرد. التطبيق الخاطئ في كثير من مقتضيات الحكم الاتحادي لغياب المشاركة الفاعلة وضعف الاداء التنموي والاقتصار على موجبات التمويه ابتعادا عن المساءلة وقبلها الرقابة الفاعلة، لابد من توسيع الحكم الذاتي على الولايات. ترهل هيكل مستويات الحكم بغير داع، سواء على مستوى العاملين او على مستوى المؤسسات الادارية والهياكل. ضعف القوانين او غيابها عن كثير من المستجدات او على اسوأ الاحوال تضاربها او تقاطعها او تناقضها. غياب سيادة حكم القانون في كثير من الامثلة وربما قاد لذلك الجهل به اساس. الازمة الاقتصادية التي ابرزت عن انياب تقطر دما، شراهة في المزيد من التمدد «راجع تصريحات الدكتور بابكر محمد توم نائب رئيس اللجنة الاقتصادية في المجلس الوطني» الانهيار التام للخدمة المدنية في اخلاقها وادائها المهني، وديكورية الاصلاح فيها، وهي بعد رأس الحربة في اي اصلاح مفترض «راجع رأي نائب رئيس الجمهورية في المسألة» ولعل من ابرز ما تعانيه هو غياب المؤسسية «القوانين واللوائح» في ضبط نشاطها واختصاصاتها وسلطاتها ومعايير وضوابط ادائها و«شخصنة» امرها. حوار الطرشان «المعلن وغير المعلن» بين الحكومة او بعض اطرافها مع القوى السياسية المعارضة او بعضها «من الذي يضحك على من». ضربات مؤلمة قاسية تحت الحزام توالي استخبارات النظام الدولي وادواته توجيهها الى «الوطن» عبر السياسة الخارجية وباسم محاربة الارهاب!! المناصب القيادية في مفاصل الدولة محل احتكار غير موضوعي فقد غاب عنها مبدأ «الشخص المناسب في المكان المناسب». الخلط التام بين دور الوزير الاتحادي او الولائي او المعتمد وهو دور سياسي وبين دور المستوى التنفيذي اذ تراجع هذا الاخير في مواجهة قوة الاول التي قد تطيح بالثاني. و... اضيفوا ما قد نسيت. «5» ان المناخ الذي يحيط بالوطن «مريب» وغير «مريح» ويستدعي استنهاض همم اهل الضمير الحر من اهل العلم والحكمة ويبدو «وضوح الرؤيا» في «التشخيص» ضرورة اخلاقية وعلمية تحت شعار «لا يعلو على استقرار الوطن.. صوت» والوطن هنا ملك لكل الناس، والدولة بالفعل هي دولة كل الناس على الرغم من وجود من يعارضها، وتبدو الخيارات المتاحة للخروج من عنق الزجاجة اللئيم رؤيا منهجية واضحة لطبيعة المرحلة الحالية وما بعدها دستور نستقيه من تجربة التاريخ الناصعة وغير الناصعة بصفاء وقوة المشاركة الفعلية في صناعة القرار المؤسسة الموضوعية للدولة واجهزتها. المساءلة والرقابة الجادة الفصل بين السلطات الحكم الذاتي للولايات الشمالية في ظل النظام الاتحادي «ولهذا الامر تفصيل طويل». وبعد... المدخل لذلك.. هو الاصلاح الدستوري والاداري فهل تدرسون!! والدعوة بعد موجهة لاهل التخصص العلمي.. فقط.