بعض الذين كانوا يشاهدون وزير الخارجية علي كرتي يتحدث بصوت خفيض أقرب إلى الانحسار عن رحلته إلى أمريكا ولقائه وزيرة الخارجية الأمريكية وهو يقول من على شاشة التلفزيون القومي أنهم حققوا تقدما بالحصول على وعود بتطبيع العلاقات السودانية الأمريكية، تذكروا صوت كرتي القوي وهو يحرض من بين دموعه الرئيس البشير في أحدى معسكرات الدفاع الشعبي على صحيفة الرأي الآخر ويطلب إغلاقها لأنها تطعن الحكومة من الخلف وهو ما حدث بالفعل في أقل من ليلة، كان تعليقهم (سبحان مغير الأحوال من حال إلى حال نقيض)، وهذه الملاحظة المرتبطة بشخص كرتي على أهميتها بما تعنيه من تحول يطال خطاب وسلوك رموز إنقاذية تحسب في خانة المتشددين إلا أنها ليست محل النظر وإنما محله ما لاحظه كثيرون من جفاء وغلظة أمريكيتين تجاه حكومة أعطت وما استبقت شيئا، فبعد إقبال الحكومة على أمريكا إقبال من لا يخشى الصد قبل فترة وجيزة وتعويلها على انجازها ما وعدتها به من رفع للعقوبات وتجميد للمحكمة الجنائية وإلغاء وصمة رعاية الإرهاب للدرجة التي دفعت أحد المسؤولين للقول ان أمريكا صارت مؤتمر وطني، ثمنا لما أنجزته الحكومة من انفصال ميسور ومقدم على طبق من صيني لإدارة اوباما، وإذا بالجميع يفاجأون إبان زيارة وزير الخارجية بتصريح يحمل مطلوبات أمريكية قديمة متجددة ما لم تنفذها الحكومة فإنها لن تشم التطبيع. أبرز ما جاء في زيارة الوزير التي جاءت بطلب منه وتوسط لإتمامها الجنرال غرايشن أن الحكومة حصلت على وعد بالبدء في العمل بعد أسبوعين على رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب فبحسب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية بي جيه كراولي إن الولاياتالمتحدة قد تبدأ الإجراءات القانونية لرفع السودان من القائمة الأسبوعين المقبلين إذا اتفق زعماء شمال السودان وجنوبه على كيفية حل عدة قضايا رئيسية لم تحسمها عملية الاستفتاء، ومنها المواطنة والحدود وعائدات النفط، وقال كراولي ?نحن مستعدون للمضي قدماً بإجراءات تطبيع العلاقات لكن يجب عمل عدة أشياء في سبيل الوصول إلى ذلك?، وقال كراولي إن التطبيع الكامل للعلاقات سيتوقف على حل التوترات الباقية بين شمال السودان وجنوبه وتحسين الأوضاع في دارفور. وكما يقول مراقبون فإن الحكومة التي دلقت ماء وجهها في سبيل إرضاء أمريكا ستجد نفسها في اللحظة الراهنة وبعد التأمل في نتائج زيارة الوزير أنها زرعت تيرابها في الأرض البلقع ذات الصخور القاسية وربما تكون استشعرت على نحو جلي خطورة موقفها من أمريكا التي تأخذ كرامتها بالجملة والقطاعي ولا تعطيها إلا وعودا بمقدار، ولعل ما يلقي بعض الضوء على ما ينتظر الحكومة من عنت تبدأ دورته غدا أو بعد غدٍ بتوقيت الحكومات الأمريكية ما قال به كرتي في اللقاء الذي جمعه بالجالية السودانية بمنزل سفير السودان في واشنطن الثلاثاء الماضي من أنهم (حتى الآن، حصلوا على وعود)، وهذا القول ربما تفسره أيضا حالة القنوط التي أصابته وهو يقول (نأمل أن تثمر هذه الجهود بنهاية العام الجاري أو مطلع العام القادم)، فالموفد الحكومي من واقع ما رآه وسمعه لا يأمل في تطبيع قريب ولا يرجوه ألا بعد عام أو يزيد. ومن وجهة نظر مراقبين فان الحكومة استنفدت أغراضها في ما يتعلق بجنوب السودان في هذه المرحلة وما عليها إلا اللهث من جديد لاستيفاء ما تبقى من مطلوبات الجنوب المذكورة ودفع استحقاقات دارفور كاملة، تلك الاستحقاقات التي لم تتضح السقوفات الأمريكية حولها بشكل علني وان كانت بعض التكهنات تشير إلى أنها تندرج في مخطط تقسيم السودان الذي تنفذه أمريكا على أقل من مهلها. ويقرأ مراقبون الفتور الأمريكي تجاه الحكومة البادي من نتائج الزيارة بأنه يندرج في باب تهيئتها للخطوة التالية المرتبطة بدارفور مشيرين إلى أن المحارب غرايشن قصد بالعمل على إتمام الزيارة وتمكين كرتي من مقابلة المسؤولين تقديم الشكر للحكومة على ما فعلت وأنجزت للجنوب ومن ثم الشروع في تقديم المطلوبات القادمة للبدء في إنفاذها، مشيرين إلى تحول أمريكي تتبدى ملامحه في العزوف عن مناقشة أي موضوع يتعلق بالتطبيع دون ربطه بقضية دارفور، ويقولون أن أمريكا تتحدث صراحة وان كان بحياء في هذه المرحلة مراعاة لأوضاع الدولة الوليدة في الجنوب عن وجوب الانتقال إلى ملف دارفور لمعالجته وفقا للرؤية الأمريكية ولعل تصريح المبعوثة الأمريكية لدى الأممالمتحدة سوزان رايس المتزامن مع وجود وزير الخارجية في واشنطن حول قوات حفظ السلام في إقليم دارفور يحمل أكثر من دلالة ويشير بوضوح إلى أن أمريكا تبعث برسالتها الأولى حول دارفور دون تهيب وتبدأها من الفصل السابع لميثاق الأممالمتحدة إذ تقول رايس أن على قوات حفظ السلام أن تكون أكثر نشاطاً في حماية المدنيين، وأن تضمن تمكين موظفي الإغاثة الإنسانية من الوصول إلى الأشخاص المحتاجين إليهم. وقالت رايس بعد اجتماع لمجلس الأمن بشأن السودان قبل يومين ?نتوقع من بعثة الأممالمتحدة والاتحاد الإفريقي لحفظ السلام في دارفور أن تكون نشطة للغاية?. والرسالة الثانية جاءت على لسان الخارجية الأمريكية حين جددت الوزيرة هيلاري كلينتون في اجتماعها مع كرتي تأكيدها على عدة خطوات يجب اتخاذها حتى يمكن تحقيق تطبيع مع الخرطوم في صدارتها الخطوات المتعلقة بدارفور، مما جعل الوزير كرتي يبدو يائسا وهو يقول في كلمة ألقاها بمؤسسة أبحاث في واشنطن (التحسين الكامل للعلاقات بين البلدين يجب ألا يصبح رهينة بقضية دارفور)، داعيا الولاياتالمتحدة أن تنظر إلى ما بعد قضية دارفور وأن تقوم بتحسين العلاقات بسرعة مع السودان للبناء على التقدم الذي حققه استفتاء تقرير مصير جنوب السودان .. وإن كان مدير مركز الدراسات الإستراتيجية والمفاوض الحكومي سيد الخطيب استدل على تغير السياسة الأمريكية التي كانت سياسة عزل لحكومة الخرطوم في عهد كلينتون، وكانت تشبه سياسة الحرب، لدرجة تسمية دول الجوار دول المواجهة، ضمن مساع للعزل تنتهي إلى تغيير النظام، استدل على تغيرها تجاه الإنقاذ إلى سياسة فيها انخراط، بهدف معلن من قبل البيت الأبيض هو إنهاء الحرب في السودان، متخلية عن هدف إسقاط النظام في التسعينيات، وعزز الخطيب في حوار بقناة النيل الأزرق أواخر ديسمبر الماضي استدلاله على تغير السياسة الأمريكية بإقناعها للحركة الشعبية بالجلوس للتفاوض وبأن الهدف ليس إسقاط النظام في الخرطوم، بل إيقاف الحرب، وإقناع الحركة بأن مطالبها مهما كانت يجب أن تسعى إلى تحقيقها عبر التفاوض، وعلى ذات النسق وكما قاد التغيير في السياسة الأمريكية عبر تقديم مقترحات وأوراق جرى التوقيع عليها إلى اتفاق السلام الشامل، فإن مراقبين يستنبطون أن التغير الامريكي كان بغرض نزع النظام قطعة تلو الأخرى على مستوى مشروعه السياسي والفكري الذي بدأ به، وإقليما اثر إقليم على مستوى القطر الذي يحكمه، ويستدلون على الطور الامريكي الجديد للسياسة الأمريكية تجاه السودان بما رشح مطلع يناير الجاري من محاولة مقايضة قضايا السودان العالقة بقضية دارفور حيث تردد على نطاق واسع حديث عن رؤية أمريكية صدرت من عدد من المسؤولين الأمريكيين ومجلس الأمن تجاه السودان، وقال غرايشن في زيارته الأخيرة للخرطوم بعد مباحثات أجراها مع وزير الخارجية كرتي إن أشياء إيجابية كثيرة في مستقبل علاقات البلدين تتطلب عمل الجميع لتحقيقها في إشارة لوجوب استجابة الخرطوم لمطلوبات واشنطن المتعلقة بدارفور، والأمر البالغ الدلالة في الاتجاه الامريكي نحو دارفور كما يقول محللون هو تعيين مستشار أمريكي خاص للوضع في دارفور، فقد جرى تعيين السفير الأمريكي المتقاعد دين سميث الذي قال عنه غرايشن أوان تعيينه انه الشخص الذي يحتاجونه ليضع التركيز علي دارفور.