نكره التغيير خوف المستقبل المجهول ، فيؤثر الناس البقاء في شقوتهم و قد تطبعوا لها ، حتى شياطين نبي الله سليمان خافوا التمرد خوف المجهول لقولهم فيما بعد : أنهم لو كانوا يعلمون أن سليمان قد مات لما لبثوا في العذاب المهين . . و لكن نفس الناس يتجاوزون الخوف و كره التغيير عند اليأس من مستقبل يشهد الخلاص و يحقق الاصلاح . فاليأس يُقوّي دوافع التغيير إذا ساد الشعور أن هذا هو منتهى الشقاء الذى ليس بعده شقاء ، و ان المصالح كلها منهارة و لم تعد هناك مصلحة يمكن الحفاظ عليها بالصبر على الضيم ، فهنا تظهر روح المغامرة كبديل للاستسلام على أمل ان يفضي الحراك و التغيير لما هو أفضل ، أو ان يفضي الى ذات الوضع إذ لا يوجد أصلاً ما هو أبشع منه . هنا ، نستعرض وجها من تدابير السياسة نرى انها إحدى مظاهر الفشل التي ندعو بتغييرها لأنها أحد اسباب الفشل في السودان ، و بالنسبة للذين لا يحتملون سماع لفظ التغيير و يكرهونه أدعوهم الى استخدام المترادف الاصطلاحي في السياسة للتغيير و هي كلمة ( الاصلاح ) ، و لست متأكداً انهم سيقبلون لفظ الاصلاح و قد اخبرنا الله تعالى بطبيعة البعض في قوله ( و إذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون ) . صدق الله العظيم . فنعلم عدم الاتفاق في التوصيف لعلة ذهنية ، و لكن العزاء هو اجماع الطامحين من ابناء الوطن أن الاحوال لا تسر و انها لا تشفي الطموح العام . نختار من اسباب فشل التدابير السياسية ( سوء إدارة قضية الوحدة في السودان ) ، و نقصد بإدارة الوحدة التدابير المتخذة لإدارة و قيادة الشعب السوداني نحو وحدة في صعد متعددة تشمل الألفة الاجتماعية ، و التوافق و التراضي حول الحقوق والواجبات ، و صون تراب الوطن و توحيد إرادة ابناء الشعب تحقيقاً للقوة و المنعة و العزة بين الشعوب . و على الرغم من ان قضية الوحدة الوطنية ظلت عبر التاريخ من الشعارات الاكثر ترويجا من قبل الانظمة المتعاقبة ، إلا أن الشعار لم يتحقق في واقع الحياة بعدد غير قليل من الأدلة نسوق منها على سبيل المثال لا الحصر : إنفصال الجنوب و استقطاع حلايب ، و المناحرة السياسية ما بين الحزب الحاكم و المعارضة ، و عدم التوافق على تجاوز الازمات المفاهيمية المتعلقة بوظيفة السلطة في الدولة و بقواعد تداول السلطة ، و باستمرار المناهضات المسلحة بين الحكومة المركزية و ابناء الاقاليم المهمشة ، و وجود أزمة طبقية حادة بين أغنياء مترفين و فقراء متربين ، و في عدم تحديد الهوية الجامعة للسودانيين من بين شعوب الارض تعبر عنهم جميعاً دون استعلاء مكون من مكونات الوطن الجامع . و مثل بروز القبلية و الجهوية و الولاء السياسي كعناصر توجه قسمة ووفاء الحقوق بين ابناء الشعب بدلاً من الكفاءة و الطهر ، و كذلك استفحال و استشراء الاقتتال القبلي بين القبائل ، و الابقاء على اوضاع التخلف المتمثلة في الفقر و الجهل و المرض ، و غيرها من المظاهر التي تنم عن وجود نزاعات و اختلافات متعددة في صعد مختلفة من الحياة في السودان . و لكي نعتمد منهجاً موضوعياً لمعالجة إدمان الفشل في إدارة الوحدة في البلاد ، فثمة اسئلة توجيهية قد تساعد في بناء هذا المنهج ، فلماذا حدث هذا الفشل ؟ و من المسئول ؟ و كيف نصلحه بالتغيير تحقيقاً للوفاق و الألفة بين السودانيين ؟ حدث الفشل لأن المجال تُرك مفتوحاً دونما أي محددات لتحديد المصالح و لسبل تحقيقها و رعايتها ، فخلق هذا حالة من التنازع غطى كل مجالات المصلحة ، و انضوى في تنازع المصالح الافراد و الجماعات و كل من له علاقة بالمصلحة المتنازع عليها ، و بدت بلادنا و كأن كل من فيه في نزاع ما مع الآخرين ! فالسياسيون غارقون في خصومات فاجرة ، و الجنوب محترب مع الشمال حتى الانفصال ، و دارفور في حرب مع المركز ، و هناك عدد غير محدود من النزاعات القبلية . . . و لا بد من الاشارة الى صورة من انماط ادارة الوحدة تتمثل في الغبطة العبثية التي تخفي الحسرة للفشل و التي أبداها بعض السياسيين من الشمال بانفصال الجنوب ، فهؤلاء ناقضوا انفسهم و ارادوا تصوير الفشل نجاحاً والعجز قوة . و أوضاع التنازع السائدة اليوم في بلادنا شبيهة بالوضع في دولة افتراضية تسمى دولة الطبيعة التي ينظر فيها كل واحد لمصلحته هو ، و يحدد هو ماهية المصلحة بالملاءمة الشخصية ، فلا حدود ما بين حدود المصالح الشخصية ، مما يؤدي الى حدوث النزاع الدائم في دولة الطبيعة بين كل المكونات . و فوضى التنازع على المصالح في السودان هو ما يدفعنا الى البحث عن انتشار الاختلاف وعن بحث صاحب المسئولية التقصيرية في حل ووقف الخلاف و التنازع ، و اذا كانت الدولة تعاقداً اجتماعياً من اهم واجباته الفصل بين المنازعات ، فإن لانتشار الخلاف علاقة بفشل الدولة . فلا يحدث دخول الجميع في نزاع مع الكل الا في دولة الطبيعة ، و هي في الحقيقة الحالة التي لا توجد فيها دولة ! الدولة تتكون من شعب و سلطة و اقليم ، و السلطة في الدولة الحديثة تتوازن من اجل تلافي نزعة الاستبداد و الجبروت على ثلاث قوى تحافظ على التوازن برقابة بعضها بالآخر ، هي السلطة التنفيذية و تمثلها الحكومة ، و السلطة التشريعية ، و السلطة القضائية . و لا بد ان تكون كل سلطة مستقلة بدرجة كبيرة لتؤدي دور الرقابة ، و درج الناس على اختزال الدولة في السلطة ، و على حصر السلطة على سلطة التنفيذ ( الحكومة ) ، فالحكومة تمارس السلطة نيابة عن الشعب ، و طالما هي مفوضة فلا ينبغي تصوير التفويض بأنه مطلق ، بل للمفوّض و في كل لحظة الحق في سحب التفويض عند التقصير . و عليه فإن الشعب يضع مسئولية اتخاذ التدابير المحافظة على تماسكه و وحدته على الحكومة . و بهذه المقاربة فإن الحكومة تتحمل الانفراط في الوحدة الوطنية ، و عليها تغيير السياسات التي خلقت الاوضاع الحالية ، و عليها ان تدرك أن الاختلاف و التنازع تجلب الوهن و الضعف امام التحديات حتى الخارجية منها . فالازمة في السودان هي فشل الحكومات في إدارة وحدة الوطن ، و استمرار الفشل سيفضي الى المزيد من التمزق و التناحر ، و هذا ما يشكل الدافع الاقوى للتغيير و للاصلاح . و لكن كيف و بم نحدث الاصلاح للاوضاع التي قادت الى هذا الاختلاف ؟ إذا اتفقنا ان الهدف هو احلال الوفاق مكان الاختلاف و التنازع حول طائفة كبيرة من المجالات الحيوية ، فإن الكلمة المفتاحية لذلك هي ( العدالة ) . فالعدل هو اساس الوفاق بين البشر . و بالعدل و بسيادة القانون نضمن الفصل بين حقوق المتنازعين بسلطان الدولة فلا نحوجهم الى أخذ الحق بمفهوم شرعة الغاب . إن الوفاق يحتاج الى إبطال الاعتداء على المصالح ، و هو اعتداء لا تقف عند اعتداء الافراد على الافراد ، او الجماعة على الجماعة ، و لكنه اعتداء الدولة ايضا على حقوق مواطنيها افرادا او جماعات ، فيفضي ذلك في الغالب الى حدوث الفتنة . فالفتنة مقترنة دائماً بفشل الدولة في إقامة العدالة فيدفع ذلك مواطنيها للثورة ، و لا يقتصر دور الدولة في كفالة التقاضي العادل و الناجز لوقف صور الاختلاف والتنازع ، و لكن يشمل ذلك ايضاً و فاء حقوق الشعب في حرية التعبير و التنظيم و الارادة الحرة في الانتخاب و التمثيل ، و حقه في العيش الكريم الذي يتوفر فيه المعاش و الحاجيات الضرورية . فهذه هي الأطر التي تحقق إقامة العدالة فيها الى الوفاق ، و هي مكامن الفشل التي لا بد من تغييرها واصلاحها لتلافى الفوضى العارمة ، وفي المثل أن الحل باليد أفضل من الحل بالاسنان ، و ليس توكيد و توثيق الربط هو الذي يستصعب الحل باليد ، فللزمن أيضاً دوره في تفويت الفرص السهلة لحل الازمات ، و لا يصلح حل اليوم في الغد ، للتطور الطبيعي الذي يعلي سقوف المطالب كلما تعاظمت التضحيات . . [email protected]