كثيرون همُ الذين ذُهلوا من الحمي التي اجتاحت وتجتاح شرق وغرب الوطن العربي مقتلعة الحكومات والأنظمة الشمولية القمعية والقابضة مستفسرين، لماذا لم تؤثر على الشارع السوداني، مهتمين ومراقبين وناشطين؟، فبرغم المحرضات والمشوقات وتوفر الأنموذج الملهم لأماني وتطلعات المعارضة والطامعين، (أبت تطلع) لا من المدفع ولا من الأبرول ولا من الشارع وهو الرهان الأخير أو كما (غنى الشاعر والمغني) من المدفع طلع خازوق، خوازيق البلد زادت... ومع ذلك الشارع المليوني أبى إلإ أن يستعصم فيما غير ندم وعض أنامل وهو (الدّبر) الشيّال والكاظم الجريح!، الشارع غالبه يطحنه الغلاء وارتفاع أسعار السلع والخدمات وتكاليف المعيشة وليس في جيبه سوى ورِق أهل الكهف، ولكنه لا يخرج! لأن هذا الشعب أذكى من كل قادته، ولأن حكومة الإنقاذ التي كانت. حكومة (ديناماكية) تختلف عن الأنظمة التي سبقتها نظام متطور في التركيبة الفكرية والمرجعية والأطروحات السياسة، والإجتهاد. والشاهد أن الحكومة تستبق المعارضة في الطرح والإصلاح والدعوة، فمنذ ساعات الإنطلاق الأولى، نادت الإنقاذ بمشاركة القوى المعارضة ودعت للحوار والشورى الموسعة إلا من أبى. ظلت على هذا الديدن حتى هذه اللحظة وهي التي تنادي الآن بتشكيل حكومة عريضة بعيد نتيجة الإستفتاء النهائية، فهذه وغيرها من (المنفثات) السياسية والأساسية التي تصور الإنفراج السياسي النسبي، فبدأ التطور السياسي بحل مجلس قيادة الثورة ثم مؤتمرات الحوار الوطني حول قضايا السلام من 9 سبتمبر إلى 21 أكتوبر 1989م وتوصياته المعتمدة للنظام الفيدرالي المعني بحل مشكلة المشاركة في السلطة واقتسام الدخل القومي والتعبير عن التنوع الثقافي والهوية وعلاقة الدين بالدولة، من منطلق الرؤيا الكلية، ثم الإعلان السياسي لخطة تطبيق الفدرالية والشريعة الإسلامية من خطاب واحد رسمي ألقاه الرئيس البشير أمام قادة ثورة الإنقاذ الوطني والوزراء 13/1/1991 م مشيراً إلي نوع الفدرالية المرغوبة لحل قضية المواطنة والدين والدولة والسلام والتنمية، وكان بناء وتفصيل النظام الفيدرالي عن طريق المراسيم الدستورية في الفترة من 1991- 1998م، ثم تلا ذلك صدور العديد من التشريعات والقرارات الخاصة هدفها المشاركة في السلطة وكيفية التداول والقسمة العادلة لضرورة التنمية المتوازنة ولبناء النظام السياسي والإداري والقضائي للدولة على مراحل، المرسوم الدستوري الرابع لسنة 1991( تأسيس الحكم الاتحادي)، قانون إعادة تقسيم المحافظات 1991 م، قانون الحكم المحلى أيضاً 1991 م، قانون اللجان الشعبية لسنة 1992م ، قواعد النظام السياسي لسنة 1991 م ،المرسوم الدستوري العاشر لسنة 1993 م ( إعادة تقسيم الولايات)، المرسوم الدستوري الحادي عشر لسنة 1994 م ( تنظيم أجهزة الحكم الاتحادي بالولايات )، قانون الحكم المحلى لسنة 1995 م، قانون الانتخابات لسنة1995 م، المرسوم الدستوري الرابع عشر 1997 م ( تنفيذ اتفاقية الخرطوم للسلام) والقانون المصاحب. وضعت كل تلك المراسيم والقوانين أعلاه في الحكم والإدارة بهدف الإصلاح الاجتماعي والسياسي والإداري والمشاركة الجماهيرية الواسعة في الحكم والإدارة المحلية ولخلق العديد من الكوادر السياسية القيادية والمحلية والمساهمة في تحقيق الإستقرار السياسي والشراكة المجتمعية في السلطة والثروة. فأين هي الآن تلك المراسيم؟ بعضها تجاوزتها المرحلة وبعضها عُدل، فالنظام الفيدرالي سلطة وثروة لتقصير الظل الإداري (شغل) الشارع بنفسه وهمومه وأصبحت عيناه على المحلية والمعتمد والمحافظ والمحافظة والوالي والولاية وليس القصر الجمهوري، وكان تشكيل المجلس الوطني حيناً بالإنتخاب وحيناً بالتعيين لفترة إنتقالية وهو الذي تفرد بحق إصدار القوانين الإطارية بموجب دستور 1998م حتى 2003م إلى أن وصل النظام للمرحلة التي نعيشها ونعايشها الآن، فهذا النظام يُحسن النقلات السياسية والتنامي وإكثار استزراع الأطر والأنماط السياسية، ثم أتذكرون نظام التوالي السياسي وقانون التوالي السياسي والجدل الكثيف الذي كان حوله وأحزاب التوالي السياسي بعد صياغة وإجازة دستور 1998، وشهدت الفترة من 1998- 2005م تعددية سياسية نسبية ثم قانون الأحزاب ومسجل تنظيمات الأحزاب السياسية والمفوضيات وانتخابات عامة، ثم شهدنا بداية مفاصلة كبيرة وبمثل ما كانت ليلة 30 يونيو1989م و بيضاء أيضاً كانت مفاصلة 1999 بيضاء في النظام الحاكم، وهو إنشقاق لخلاف في الإدارة وترتيب الأولويات، واستطاع النظام أن يتجاوزه وهي التي اصطلح عليها بقرارت (الرابع من رمضان). وتعتبر المفاصلة مرحلة أثّرت على علاقة الحكومة بالمعارضة الداخلية والخارجية كما أثرت على السياسة الخارجية، وتعتبر نيفاشا مرحلة، والفترة الإنتقالية والدستور الإنتقالي وحكومة الشراكة مرحلة والإستفتاء مرحلة، والإنتخابات العامة وهي كلها مراحل وطّدت دعائم الحكم تلك التي قيّدت الشارع من الإنتفاضة الشعبية وهو يرى بأم عينه كل قرارت الأممالمتحدة ومجلس الأمن الدولي تتكسر أمام العالم ستة عشر قراراً (1044)، (1054)، (1070)،(1593) وغيرها كلها استطاع هذا النظام الذي يودون تحريك الشارع لإقتلاعه تجاوزها والتي لم يتجاوزها عمد لتعديلها حتى العقوبات الإقتصادية والحصار الإقتصادي، وهي تحديات أتت في ظرف دولي دقيق، فاستطاعت الحكومة تجاوز مراحل الإقناع والردع والإرغام مع المؤسسات الدولية في السياسة الخارجية كما فرض هذا النظام على الولاياتالمتحدة أن تتعامل معه بالندية، وعلى المستوى الدفاعي القتالي والحروب وهو ميدان الإبحار فيه أوسع، فأبرز التحديات العسكرية التي جابهت هذا النظام العدوان الثلاثي الإثيوبي الأريتري اليوغندي المدعوم من الولاياتالمتحدة وقتذاك 1997م، وتحجيم حركة التمرد بالعمليات الجهادية وبعمليات صيف العبور وغيرها الكثير، فالشارع يعلم أن هذه الحكومة مستهدفة ويعلم أنها الوحيدة القادرة للوقوف في وجه الإستهداف والإختراقات الوطنية، حيث أعطت الجنوب حق الإستفتاء وتقرير المصير مع الإستعداد التام للإنفصل الكامل إن رغب، وهيّئت الشارع لذلك، ومع الجاهزيّة للسلم الجاهزية للحرب فكيف للشارع أن يخرج على حكومة مشدودة من شتى الأطراف ولا بديل حقيقي ولا قوى جديرة بالوقوف خلفه، كيف؟ ومرحلة تقرير المصير والإستفتاء أضخم وأخطر مرحلة تمر على البلاد، فعدم جمود النظام ولدانته السياسية في النسق السياسي المترابط والمتجدد أعطى الإحساس بالتجدد للميكانيكية الإصلاحية المتطورة في الحراك السياسي من عسكري ثوري إلى شرعية سياسية فيما عرف بالتحول من الشرعية الثورية للشرعية الدستورية 1998- 2005م إلى إنفتاح شامل وهي إجراءات قيّضت مظلة مشاركة لا نهائية وإذا نظرنا لعدد إتفاقيات السلام التي وقعتها الحكومة منذ برنامج السلام والتنمية، مؤتمر الحوار الوطني حول السلام، ومفاوضات السلام السودانية في العاصمة النيجيرية (أبوجا) الأولي والثانية والثالثة ونيروبي وإتفاق عنتبي ومجموعة توريت وإتفاقية فشودة وملتقى جوبا الأول والثاني وإتفاقية الخرطوم للسلام وإتفاق سلام الشرق ودارفور ومع المعارضة الشمالية والتجمع الذي إنتقل للداخل وجيش الأمة وغيرها الكثير والعديد منها قُبر، فهذا الإوراق السياسي المرن هو الذي حيّد الشارع وأنا أعني الشارع العريض الذي لا يُعايش إحتقان سياسي، والشارع السوداني لا يخرج متظاهراً ليس (لبحبوحة) العيش الرغد والنعيم المترف المترع والمال المبذول والثراء المتقنح، ولكن الآن خطاب الجغرافيا المقتطع لخريطة الأرض والوطن سياسيا،ً وفق آخر بند يطوي ملف إتفاقية السلام الشامل 9 يونيو 2005م مقدم على ملف لقمة العيش والإنحراف المعياري للإقتصاد والذي تود المعارضة إستثماره سياسياً لإزاحة حكومة (رابطة حجراً)!. والشارع السوداني يشهد أن الحكومة التي نازلت الحركة الشعبية وهي التي كادت أن تستعد لفرض برنامجها على الحكم القائم يومئذٍ، الذي كان يرسل الوفود للحركة الشعبية مستجدياً وهي تتمنع وتعتز، فتوجه إليها النداءات والمناشدات، فترفض، ترحل إليها الأحزاب والنخب والحكومات في مكان إقامتها إثيوبيا، فلايزيدها إلا صلفاً وغروراً، وكانت للتمرد في السابق شروط وإملاءات ومطالب حاول فرضها على الوضع السياسي الذي كان قائماً في فترة ما قبل الإنقاذ والقائمة طويلة، كوكادام، آمبو، قيون، ودرو، ويلسون، بيرجن. والحركة الشعبية لجنوب السودان تكسب وتتقدم على الأرض ستة عشرة منطقة (محررة) وأتت الإنقاذ وأجبرتها الجلوس للتفاوض فوصلت معها ما وصلت من مستحقات وإستحقاقات سياسية وإقتصادية وإجتماعية ومشاركة في السلطة وحكم الجنوب المطلق منصب النائب الأول 28% من مستويات الحكم مع حكم الجنوب المطلق و50% من موارد البترول في قسمة السلطة والثروة والبرتوكولات الستة لمدة ست سنوات على وشك الإنتهاء الآن، وبعد كل هذا قالت حكومة الجنوب تود الرحيل بشعبها وفرز (العيشة) من الشمال المسلم والإسلامي، فقالت لها الحكومة القومية وبشجاعة تُحسد عليها ((ودعناك الله وكان (إحتجتو) لأي حاجة أول من يلبى نداء الغوث والمدد نحن))، فمواطن لم يخرج على نتيجة إستفتاء جنوب السودان ليس من جبن به، أنّى له أن يخرج ليزيح نظاماً متمرساً ومترّساً قابلاً للإصلاح والتطور والتطوير، صبراًَ ومصابرة سلماً وحربا.وهو الوحيد الأجدر والأقدر على صد العدوان السياسي والحصار والإقتصادي والحرب الشاملة، كما هي قرارت الأممالمتحدة ومجلس الأمن، فالنظام عملياً فيه اللين لا كما تصوره القوى الأخرى التي تستجدى الثورة عليه فلذلك (لم) يستجب ولا أقول (لن). والطرق الإصلاحية المنتهجة في الأطروحات السياسية حدّت من نسبة العداء والشحناء السالبة لحكومة تسمى حكومة وحدة وطنية يشترك فيها (28) حزباً تشكل مجلس أحزاب الشراكة (مجلس أحزاب حكومة الوحدة الوطنية) ولا ننسى يوم أن قالت في ميثاق التوافق علي ترشيح عمر البشير الذي أصدرته في آخر إنتخابات حيث ذكرت (إن الترشيح يأتي لإكمال دوره الوطني والتاريخي ولأنه رمز للسيادة الوطنية يمثل صمام الأمان للوصول للأهداف الوطنية العليا للاتفاقيات والخطط المتصلة بإكمال مسيرة السلام والتحول الديمقراطي، فضلا عمّا تمثله شخصية البشير من قاسم مشترك قام بما تمليه عليه واجباته الوطنية والمسئولية الدستورية والتاريخية لتنفيذ بنود اتفاقيات السلام وخطط الدولة الإستراتيجية). فأياً كان محدودية هذه الأحزاب المشاركة وتأثيرها لضعفها فإلى حدٍ ما، هي شراكة تفرغ الغضب وتدغدغ المشاعر وتعزز ثقة الناخب في مقدرة الحزب الحاكم الباسط ليده السياسية والداعي مراراً وتكراراً للقوى الأخرى للمشاركة حتى الذين يُنازلونه في الميدان عسكرياً ويختلفون معه فكراً وعقيدة وكما وقّعت الكثير من الإتفاقيات مع القوى المعارضة الأخرى وتحاور كل من يريد الحوار، وهذه واحدة من دعامات التماسك وتوازن القوي التي خلخلت قواعد الأنظمة الحزبية، والسياسة الإنفتاحية التي ينتهجها المؤتمر الوطني الحزب الحاكم والشريك كانت هي الحرس المنيع وحائط الصد الحديدي لوجدان القواعد الشعبية من الإستمالة والإمالة وكل من أراد أن ينضم للمؤتمر الوطني من القوى الأخرى يُرحب به داخل المؤتمر الوطني في غير خشية ورهبة ويولونهم وهم أعداء الأمس المناصب، وكثيرين كانوا في أحزاب أُخر إنسلخوا وانضموا للمؤتمر الوطني وبعض القيادات إنضمت بقواعدها الأمر الذي جعلها من ركائز النظام ودعائمه التنظيمية والتكتيكية، ومن يُقدم القمع على القرار الإرادي سبباً في كبح جماح (الشارع السوداني) وتكبيله يظلم الشارع السوداني الحر وينسف تاريخه. لذلك ثقة المواطن في الحكومة الحالية بعلاّتها أكثر من ثقته في معارضة يعوزها قراءة الواقع وتوقيت الإشعال والجهل بزادها والوقود، ومن هنا الشارع السوداني لم يستلهم النموذج (البوعزيزي) ولا النموذج الشبابي التقني في مصر نزولاً عند رغبة قادته في حراك مليونيٍ مزلزل (خلاق) مع قدرته على ذلك. ولم تستطع المعارضة حتى الآن الإستفادة من أي سقطة من سقطات الحكومة لتوظفها لصالحها ولتكون محرّضة للجماهير وللشارع أسوة بالتوانسة والفراعنة. الأهم من كل ذلك النظام يدعو لتطبيق الشريعة الإسلامية، وكل سياسي يعلم علم اليقين ماذا تعني الشريعة في وجدان الشعب السوداني سياسياً، وبين يدينا دستور إنتقالي وفترة رئاسية محددة فهذه وغيرها الكثير الذي لا يتسع المقام لتعداده من مثبطات الثوران والإنتفاضة الشعبية الآن في السودان. ولكن في نفس الوقت إذا هبّ هذا الشعب السوداني صاحب التجارب وانتفض فإن تياره الجارف العرمرم لا توقفه الشلالات الستة، ولا الدّلتا بمقدورها أن تفلقه لدمياط ورشيد، والشعب السوداني يعلم أكثر من غيره أن حكومة في السودان على رأسها (البشير) إن هي إبتغت (العدل) برنامجا في هذا الحصاد السياسي و(المحاسبة) منهجاً و(الإقتصاد) غاية، سوف تغدو أفضل حكومة في أفريقيا والوطن العربي.. [email protected]