التغيرات السياسية العاصفة والتى تمثلت فى الهبات الشعبية الغاضبة التى عمت الدول العربية طالت دولاً عربية وأفريقية وأحدثت فيها تغييرات جذرية سيكون لها ما بعدها فى المنطقة ، ضمن هذه التغيرات نستثنى ما يجرى الآن فى ليبيا ، فالكثير من المحللين يُشبِّهون ما يدور فى ليبيا الآن بما دار فى مصر وتونس ، وهذا خطأ يُغبش الرؤى ولايعكس حقيقة ما يدور هناك ، فالمتظاهرون فى تونس ومصر كانوا يرفعون رغيف الخبز عالياً وكانوا يضمنون شعاراتهم الشكوى من الجوع والبطالة والفساد والمحسوبية ، ولكن مايدور فى ليبيا هو صراع محض حول السلطة بين القذافى وخصومه من الإسلاميين خاصة أولئك الذين يسمون أنفسهم بالجماعة الإسلامية المُقاتلة والذين أفرج عنهم قبل عدة شهور بواسطة جهود بذلتها مؤسسة القذافى الخيرية التى يترأس إدارتها نجل القذافى سيف الإسلام الذى سيندم كثيراً على ما أقدم عليه من إفراج عن هذه الجماعة التى لاتنتهج سوى سبيل القتال و العنف فى خدمة قضاياها التى تؤمن بها . هناك حقائق أخرى يجهلها الكثيرون من المراقبين عن حقيقة التركيبة القبلية التى تشكل قوام السكان فى ليبيا ، إذ أن العصبية العشائرية التى تستند إلى مبدأ أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً تكاد تكون من أهم المبادئ التى تحكم علاقات القبائل فى ما بينها ، فقبيلة مثل قبيلة القذاذفة مهما تكن المبررات التى يسوقها قادة المعارضة المسلحة والمتعاطفين معها فإنها دون شك ستقف مع العقيد معمر القذافى ومعها القبائل المتحالفة معها مثل المقارحة والمجابرة والعبيدات وقبائل الزنتان وقبيلة الحسون وغيرها من القبائل الأخرى المتحالفة مع القذاذفة ، هناك أيضاً بعد لم يستصحبه تحليل المحللين وهم يتناولون الشأن الليبى الذى يدور هذه الأيام إذ أن المناطق التى نجحت فيها الثورة المسلحة مثل بنغازى وشرق ليبيا عموماً تتبع بولائها للملك إدريس السنوسى بحكم إنتماء الملك إلى شرق ليبيا والمعروف أن العقيد القذافى قد أطاح بعرش الملك عام 1969م ومنذ ذلك العهد فإن العلاقة بين مدن وقبائل شرق ليبيا والعقيد القذافى يسودها العداء والتربص ولكن القبضة الحديدية له على مقاليد الأمور فى ليبيا جعل من العسير لأهل الشرق إظهار نواياهم وعدائهم له ، إلا أن الذين يخبرون الأوضاع فى ليبيا عن كثب يدركون جيداً أن الأوضاع إذا ما قُدر لها أن تسوء أكثر فى ليبيا فإن العاملين القبلى والجهوى سيحددان شكل الصراع على نحوٍ كبير فى الأيام القليلة المقبلة وقد تنشأ دولتان فى ليبيا إذا ما فشل العقيد القذافى فى حسم الصراع لصالحه خلال الأسابيع القليلة المقبلة . أما عن آثار ما يدور فى ليبيا على الجوار والمحيط الإقليمى والدولى ، فمما لاجدال فيه أن هناك أوضاعاً ستتبدل كثيراً ، وأن العديد من الدول والمنظمات العالمية والإقليمية والتى إرتبطت بليبيا بعلاقات ترواحت بين العداء والصداقة وبحجم المصالح وتشابكاتها جاءت ردود أفعالها متسقة مع شكل العلاقات التى تربطها مع النظام فى ليبيا ،الأمر الذى أدى إلى حالةٍ من الإضطراب ، خاصة فى ظل تضارب الأخبار الواردة من ليبيا عن حقيقة ما يدور على الأرض، إجمالاً فإن الدول التى ظلت فى حالة عداء مع النظام فى ليبيا أعلنت تأييدها للمعارضة المسلحة للدرجة التى وجهت فيه إعلامها لخدمتها ، وقد اعتقد العالم أن الثورة فى ليبيا لا تخرج عن إطار الهبات الشعبية التى انتظمت المنطقة الإقليمية لليبيا مثل ما جرى فى مصر وتونس ، ولكن وبعد عدة أيام عندما بدأ ظهور بعض الذين تعرفهم أمريكا بسيمائهم المتمثلة فى لحاهم المرسلة وأن الأمر منذ ضربة البداية الهدف منها الإستيلاء على القيادات والمناطق العسكرية فى شرق البلاد ، فقد بدأ التردد فى إتخاذ موقف محدد وواضح فى داخل أروقة الأممالمتحدة وفى الإتحاد الأوروبى الأمر الذى يؤكد التشكيك الدولى فى هوية من يقودون الصراع المسلح داخل ليبيا الآن خاصةً بعد أن اتضح أن معظم القيادات الليبية التى ظلت تعارض نظام القذافى من المنافى ودول الإغتراب فى أروبا والولايات المتحدةالأمريكية والمعروفون هناك على هذا الأساس إقتصر دورها حتى الآن على التحليلات فى الفضائيات ووسائل الإعلام ولا أثر لهم واضحٌ فيما يدور الآن داخل ليبيا وأنهم ليس لديهم دورٌ يُذكر فى أعمال وخطط المجلس الإنتقالى فى بنغازى . أما فى السودان فقد إنقسم الرأى العام السودانى إنقساماً حاداً ، فهناك مؤيدون لنظام العقيد القذافى وهناك أيضاً مؤيدون لخصومة من حملة السلاح ، فبالنسبة لمؤيدى القذافى فى الساحة السودانية فمعظمهم من أفراد الشعب السودانى الذين ارتبطت حياتهم بصورة أو بأخرى بليبيا مثل المغتربين الذين يقولون إن نظام العقيد متساهل معهم ويتعامل معهم بفهم أن ليبيا وطنهم الثانى ، وآخرون من المؤيدين للهوية الأفريقية يرون أن العقيد يحترم الأفارقة وأنه ظل يبحث عن المجد والإنعتاق من إسار المثلث الأفريقى المرعب المتمثل فى المرض والجوع والتخلف ويرون أن ليبيا هى رمز لعزة أفريقيا وكرامتها ويثمنون إسهاماتها فى إنشاء الإتحاد الأفريقى وتجمع (س ص ) ، وقد كتب العديد من الإعلاميين الذين يمثلون هذا التيار العديد من المقالات نُشرت فى العديد من المواقع الإلكترونية وهناك آخرون دعموا المعارضة الليبية من جهة تأييدهم لموجة الثورات والإنتفاضات التى تعم المنطقة والدول العربية بصفة عامة وهؤلاء هم من دعاة الحكم الديمقراطى ومؤيدى التداول السلمى للسلطة وعدم إحتكار السلطة أو توريثها وتوطينها داخل الأسرة الحاكمة ، وقد عبروا عن آرائهم هذه من دون تجريح أو سخرية أو شماتة فى النظام الليبى . أما بالنسبة للحكومة السودانية .. فكثير من الدوائر التابعة لها أبدت إرتياحها لما يدور فى ليبيا وما يواجهه نظام العقيد معمر القذافى من صعوبات بالغة .. فهم ظلوا يتهمون العقيد القذافى بالتورط فى دعم الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة دكتور جون قرنق ثم لاحقاً اتهموه بدعم الحركات الدارفورية المسلحة ، وقد كانوا قبل الأحداث التى تدور الآن فى ليبيا لايصرحون بهذه الإتهامات علناً ، إذ أن التصريح علناً كان سيُؤزم العلاقة بينهم والحكومة الليبية الأمر الذى سيجعل العقيد الليبى يقدم دعمه بصورة أكثر سفوراً بالإضافة إلى أنهم سيفقدون بعض دوره فى تسوية قضية دارفور ، بل كانوا يطمعون فى تحييده وإلحاقه بموقف الرئيس التشادى إدريس دبى الذي صبروا عليه حتى حيّدوه فى قضية دارفور.