العامل الحاسم والجذري لحل مشكلة المواطن والدولة، هو «زيادة الإنتاج» بكافة ضروبه وبلا استثناء حتى الإنتاج الفكري والثقافي، فحاجة الدولة للموارد النقدية أشد من حاجة المواطن للخدمات والسلع الضرورية والاستقرار الاقتصادي واستقرار السوق، فالإنتاج الوفير المدروس والعلمي وفق التخطيط الاستراتيجي والإنتاج الموائم لمتطلبات السوق العالمي قبل المحلي في إطار النظم العولمية والأشراط المواصفاتية والدولية، هو حجر الزاوية والعصا السحرية للخروج من ضريبة القسوة والتعسف والإكراه، وكلها إشكالات حلها في نقطة واحدة هي «ثورة الإنتاج الكبرى» لتفجير طاقات الأمة المسبوقة بالدراسات العميقة والدقيقة في إطار مظلة التخطيط الاستراتيجي والتي أعلاها على الإطلاق قطاعا الصناعة والزراعة وما يتطلبانهما، ومنذ سنين عددا ظلت هياكل الإنتاج في الأداء الاقتصادي السوداني إن هي راوحت مكانها إيجاباً ترتد لنقطة البداية سلباً، فقط الذي دخل في منظومة الاقتصاد السوداني إلى جانب هياكله التقليدية المعروفة «البترول» في قطاع المعادن، والذي لم يكن نعمة على الإطلاق لما له من زوايا ومرئيات لا تفوت على فطنة الحاذق المسؤول، وظللنا نرزح ما بين الاقتصاد الريعي والخدمي بأنواعه والذي على رأسه حداثةً قطاع الاتصالات الذي فتح ساحات شاسعة نوعية لارتياد هذا المجال الخدمي التجاري التسويقي التشغيلي، ويعتبر شكلاً من أشكال الاستخدام والتشغيل الحر والمفتوح، فالبترول أبدل قاعدة الميزان التجاري بسد بند إيرادات المحروقات، فانتقلت فاتورة الوارد باعتبارها سلعة نقدية منه لبند الصادر في قطاع المعادن بعد الاكتفاء الذاتي من المحروقات، ولكن الفائض المصدّر منه بوصفه سلعة ريعية لا بد أن يُقابله اكتفاء ذاتي من السلع المستوردة الأخرى والمنهكة للوطن والمواطن والمعطلة للصناعات والطاقات البشرية والمواد الخام، فلا بد من اكتفاء ذاتي من خلال التصنيع المحلي والوطني لسد نقص السلع الغذائية المصنّعة والأخرى المستوردة، وكذلك قطع الغيار، فالوارد الكثيف لا يؤدي إلى اختلال الميزان التجاري فحسب، وإنما يهُز اتزان سعر الصرف على الدوام، فلا يُعقل أن نستورد صلصة تركية ونصنّع طيارة، ونستورد «بصل الثوم» من الصين ونصنّع أو نجمّع السيارة والدبابة، على سبيل المثال لا الحصر، ونحن الغرقى في مواردنا الغنية والعطشى طالبين الغوث والنجدة من أنفسنا لأنفسنا، فلتوسيع المظلة الضريبية المتوجب أولاً السعي الجاد في تصنيع حاجة ما نستورده، سلعة، سلعة، أي توسيع مظلة الإنتاج لسد المنتقص والحاجة، إنتاج بشتى أشكاله صناعي زراعي خدمي بمنظومة متكاملة وليس من خلال جزر صناعية معزولة وإنما صناعات تكاملية، فالحاجة للسياسات الاقتصادية الواقعية الجريئة من الأرض وليست من علٍ تفرضها ظروف المرحلة الحالية، وأن تكون كل قرية وساحة وشارع وسوق عبارة عن مجمع جيّاد الصناعي، فلا تستهينوا بالصناعات الصغيرة والأسر الصغيرة التي هي عماد الكبيرة، ومن هذه الصناعات الصغيرة انطلقت دول العالم الكبرى، ومنها كانت النهضة الصناعية التي قامت عليها حضارة اليوم، وارتفعت نسبة الادخار للدول الصناعية لعدم حاجتها لدولار الواردات إلا في إطار محدود، لذلك تعيش شعوبها في رفاهية ولا تعتبر الضرائب مصدر قلق لها، لأنها ضرائب ليست مبنية على التقدير الإيجازي لفقدان الذّمة في سلطة الوكيل الاعتبارية والعميل الأخلاقية، وإنما الثقافة المجتمعية والقناعة الذاتية تدفع بالعميل في هذه البلدان إلى أن يُسدد ضرائبه ذاتياً، وهو بذلك يذهب أبعد من مرحلة التقدير الذاتي لأنه تجاوزه فعلياً، لذلك أصبح هذا العالم الصناعي من حولنا في تقدم وتطور للاستقرار الاقتصادي المرهون بالاستقرار السياسي مع الخطط الاستراتيجية المتجددة، فاكتفت من كل ما هو مصنّعٍ وكمالي وأمنت، فارتفع لديها الاحتياطي النقدي. فالحاجة ضرورية لثورة صناعية تُبتدأ من القواعد الجماهيرية الشعبية من ابتكارات واختراعات العمال والحرفيين والفنيين والتشغيليين، لأنها هي التي تزيد الإيرادات الضرائبية المباشرة وغير المباشرة، بل حتى الإيرادات المصلحية وكل الإيرادات، وعندما تنحصر «الواردات» يحدث الاتزان والانتعاش الاقتصادي، وبدون تشابك اقتصادي في علائق الإنتاج الصناعي والزراعي والخدمي نؤوب لمفترق مبتدأنا الذي ظلّ مقعداً بنا السنين ذوات العدد، وكفى بلسان الواقع الذي يُحدثنا عن سياسة الارتجال الاقتصادي خارج مظلة التخطيط الاستراتيجي في المقارنة ما بين الصادر والوارد، حتى بلغ الحال بكثيرين في إطار الصراع اليومي والمستمر مع السوق وأدواته للمحافظة ليس على الأرباح التي يود الديوان أخذ ضرائبه منها، وإنما على الأصول والرساميل والبحث عن مسارات التسيير، وعند كثيرين أعلى سقف طموحاتهم قوت اليوم وسد الرمق. حلمنا بصناعة الطائرات والغواصات والمراكب والسفن والأقمار الصناعية والمراكب الفضائية والأجهزة الإلكترونية «مدخور»، ولا عشم لنا في عالم اليوم من صناعات ثقيلة ضخمة من غير أرضية سياسية صلبة واستقرار سياسي، فقط هنالك صناعات صغيرة بسيطة وميسورة بها يمكن أن تُمزق فواتير الوارد السلعي ثم التي تليها والأخرى حتى نصل درجة الاكتفاء الذاتي على الأقل من السلع التي نستوردها اليوم وهي صناعات ليست معقّدة ولا تحتاج لجهد ابتكاري، وبدلاً من الجهود الخرافية المبذولة في أمر توسيع المظلة الضريبية لتحقيق «الربط الضريبي» ينبغي العمل على توسعة مظلة الإنتاج الصناعي والزراعي أفقياً ورأسياً، ولماذا لا تكون مؤسسة الضرائب مساهماً أساسياً في رسم خارطة السياسات «الإنتاجية» بدلاً من «الجبائية»، لأنها المستفيد بطريقة غير مباشرة من توسيع مواعين الإنتاج الكبرى، فالحل ليس في توسيع المظلة الضريبية لزيادة موارد الدولة، ولكن الحل في زيادة الإنتاج ورفع القدرات الإنتاجية المواكبة للمقاييس العالمية والملبية لاحتياجات السوق المحلي والعالمي. ومن خلال توسع مظلة الإنتاج بالضرورة تزداد الضرائب وحصيلة الجبايات والأتاوات التي تُحصّل عن سماحة ورضاء وطيب نفس لأنها من «سنام» إنتاج العميل الوفير وليست من دمه الشحيح المسقوم، والإنتاج الكثيف في كنف التخطيط الاستراتيجي، يحد من البطالة، ومن الجريمة، ويؤدي للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وبالتالي السياسي، ويُطفئ الثورات الشعبية، والإنتاج الوفير التمددي التصديري لأسواق العالم مع زيادة السحب والاستهلاك، به تتسع المظلة الضرائبية تلقائياً وتتمدد كلما تمددت سحب الإنتاج التجمعي لدخول عملاء جدد وملفات جديدة ونشاطات، أما الإجراءات والسياسات المعمول بها في أمر توسيع المظلة الضريبية في واقع اليوم مع قراءة المتغيرات الإقليمية والمحلية والظرف الحرج الذي نعايشه، تصبح كمن يود سحب دم من «رجل أعمال» أو «تاجر» يُعاني من فقر الدم الاقتصادي والأنيميا. [email protected]