قدم الباحث ابراهيم اسحاق ابراهيم دفاعا مستميتا عن الرواية الشفهية ودورها فى تدوين الاحداث التاريخية، وطالب بأن تكون مصدرا من مصادر كتابة التاريخ الحديث، وتعتبر التوطئة المنهجية التى صدَّر بها كتابه القيِّم «هجرة الهلاليين من جزيرة العرب الى شمال إفريقيا وبلاد السودان» اقوى محاولة للتأكيد على أهمية الرواية الشفهية فى كتابة التاريخ. ويرى إسحاق أن العبرة ليست فى نوع المصدر وثيقة مكتوبة كان او تاريخا شفويا، إنما العبرة فى إخضاع المصدر للنقد المنهجي المؤسس له فى علم التاريخ، ويستشهد فى دفاعه عن اهمية المصدر الشفهى بالمنهجية التى استخدمت لتوثيق الاحاديث النبوية و دور الاسناد فى نقل الاحاديث النبوية، حيث يشترط علماء الحديث أن يقوم السند على اساس مقبول يمنع اى خلل فى هذه المرويات، ويورد اسحاق كذلك نقد المؤرخ الانجليزى اى اتش كار (E.H. Carr) لطغيان الوثائق فكان يسخر من تقديس الوثيقة عند بعض المؤرخين ويقول: «ان رجال التاريخ صاروا يقتربون من الوثائق بهامات خفيضة ويتكلمون عنها بإكبار شديد ورأيهم عنها هو انه إذا وجد الامر فى الوثائق فهو كذلك، بينما الوثيقة حسب رأى كار لا تخبرنا باكثر مما يفكر به مؤلفها فليست هناك علمية مطلقة فى الوثائق» «ابراهيم اسحاق هجرة الهلاليين من الجزيرة العربية الى شمال افريقا وبلاد السودان»، ويبتهج إسحاق على ما يبدو بهذا الرأى ويدلل على صحته باعتراف المرحوم موسى المبارك فى كتابه «تاريخ دار فور السياسى» حيث اعترف المبارك بأن الروايات الشفوية افادته فى سد الثغرات التى لم تسعفه فيها الوثائق او المراجع الثانوية، وكذلك بما اورده عصمت حسن زلفو فى كتابه «كررى» استنادا على بعض الوثائق من ان الامير جاد الله عيسى قد استشهد فى كررى، بينما الرواية الشفهية نقلت الحقيقة التى لا لبس فيها وهى ان الامير جاد الله قد بقى جريحا فى ساحة معركة كررى لايام، ثم ان احدهم انقذه وعالجه وعاش حتى عام 1964م، حيث مات ودفن فى دارفور، وانجب عددا من الاحفاد موجودين حتى الآن منهم الراوي الذى كذب ما اوردته الوثائق الرسمية حول هذه الواقعة. هذه الافادات قوت ثقتى فى الرواية الشفهية وجعلتنى اعيد التأمل فى المخزون الشعبى الضخم من الروايات التى تتناول تاريخ الممالك الاسلامية فى السودان، ومنها مملكة تقلى الاسلامية، وطوال المسافة بين الخرطوم والعباسية تقلى عاصمة مملكة تقلى وهى مسافة تقارب الستمائة كيلومتر قطعناها فى اكثر من ست ساعات، كنت استرجع المخزون الشعبى من الروايات عن احد اهم الممالك الاسلامية التى حكمت ما يقارب الاربعة قرون، وكان لها اكبر الاثر فى نشر الاسلام فى الجزء الشرقى من جبال النوبة وهى مملكة تقلى الاسلامية، وكما قال احد المؤرخين: «لو دُونت الحوادث التاريخية حسبما وقعت ونظر الرواة التاريخيون الى المصادر الموثوقة ببصائرهم لا بقلوبهم، لذٌهل الناس لفرط ما رأوه من همم كانت مصروفة وفنون كانت مبذولة، وتقنيات شتى كان معمولا بها». ودخولنا تقلى كان مناسبة للتأمل من جديد فى تاريخ هذه المملكة الاسلامية العظيمة ودورها التاريخى فى نشر الاسلام فى المنطقة الشرقية من جنوب كردفان التى تخلو من اى مظهر للوجود المسيحى عكس مناطق الجبال الاخرى التي يطالب ابناؤها بأن تصبح ولاية مستقلة باسم ولاية قدير، وارجح الروايات تفيد بأن مملكة تقلى اسسها داعية مسلم يسمى محمد الجعلى، وصل الى المنطقة عام1530م، وورث ابنه جيلى ابو جريدة حكم تقلى كعادة اهل المنطقة فى توريث ابن البنت، وذلك عام 1560م، ويقال ان اصل اسم جيلى هو الاستفهام «جاء ليه؟» «لماذا اتى ؟» توارث عرش تقلى تسعة عشر من الاحفاد اولهم جيلى ابو جريدة ثم تلاه ابنه صابر ثم جيلى عمارة وعمر ابو شهيرة وبلغت المملكة ذروتها فى عهد المك ناصر والمك آدم ام دبالو الذى عاصر المهدية وناصر المهدى، لكن من سخريات القدر مات فى سجون المهدية وهذه من عجائب السياسة، واخر ملوك تقلى هو الملك آدم ابن الملك جيلى، ثم تحولت المملكة الى مجلس ريفى عام 1947م. واهتم ملوك تقلى بتأسيس الخلاوى ونشر الاسلام، وبسطت المملكة سلطانها على رقعة واسعة امتدت من ابو حبل شمالا حتى تلودى جنوبا، وارست تقاليد راسخة فى الحكم والتمسك بمكارم الاخلاق، حيث يذكر الرواة انه عندما غزا ملك الفونج بادى الثانى المعروف ببادى ابو دقن مملكة تقلى وكانت تحت حكم جيلى ابو قرون «1640-1665»، كان القتال يستعر بينهما نهارا ويخلد الجيشان الى هدنة ليلا، وكان جيلى ابو دقن يستغل الهدنة ليرسل موائد العشاء حافلة الى الجيش الغازى كل ليلة، لأنهم حسب العرف ضيوف يجب اكرامهم مهما كان، ولما عرف الفونج حقيقة الامر اوقفوا الحرب وانسحبوا خجلا من ان يقاتلوا قوما هذه هى اخلاقهم. لقد فوجئت وانا ادخل العباسية تقلى ان اعرف ان مرشح الحركة الشعبية فى دائرة العباسية للمجلس التشريعى هو آدم على ناصر ام دبالو احد احفاد مملكة تقلى الاسلامية، فالمفارقة الكبرى هى ان يكون حفيد من نشروا الاسلام فى ربوع تقلى مناصرا لدعاة العلمانية، بل وجدت عددا غير قليل من احفاد ملوك تقلى ممن لا نطعن فى دينهم قد اختاروا الوسيلة الخطأ للتعبير عن احتجاجهم على بعض سياسات الإنقاذ وحزبها الحاكم المؤتمر الوطنى، فطلبوا النصرة من حركة علمانية عقيدتها الحزبية تصادم تراث الاجداد وعقائد الاحفاد. لقد ظلمت مملكة تقلى مرتين، مرة عندما لم تجد الإنصاف من المؤرخين والمدونين واهل السلطة فأهمل موروث وتراث كان يمكن ان يكون من اهم تراثنا وآثارنا التى نعتز بها، والمرة الاخرى عندما تبول الاحفاد على هذا التراث وركلوه بأرجلهم وذهبوا يبحثون عن مجد فى اطروحات السودان الجديد التى هى نذير شؤم إذ قادت الى تمزيق السودان الى قطرين، وسعت الى ايقاف التفاعل الاجتماعى والاقتصادى والثقافى الذى سيولد امة سودانية متجانسة مهما طال الزمن، وادى طرح السودان الجديد كذلك الى بروز فتن اثنية فى اماكن متعددة من السودان، بعض منها مسلح ازهق الارواح وكان سببا فى إهلاك الحرث والنسل وانتشار الفساد فى الارض. لقد اطلعت على اطروحة السودان الجديد اول مرة فى اواخر الثمانينيات من القرن الماضى عندما طرحت فى ندوة جامعة برجن الشهيرة «بيرجن السويد 23 24/2/1989» والتى ناقشت الازمة السودانية من عدة جوانب، وتم نشرها فى كتاب. وقد ايقنت بعد ان درست الاطروحة بدقة ان السودان سيواجه ابتلاء وفتنا ستجعل الحليم حيران، لكن ما كنت اظن ان احفاد مملكة تقلى سيكونون من دعاة السودان الجديد، «يا ديك البطانة انت ما السودان القديم ذو التاريخ والارث الاسلامى المستهدف بالتغير الذى تطرحه الحركة الشعبية، فلماذا توقد النار التى ستكشن بها بصلتك». لقد اغنانى المفكر د. صديق تاور كافى فى تحليله العميق عن حالة جنوب كردفان الآن والمنشور فى مقاله الاسبوعى فى جريدة «الصحافة» العدد6384 الخميس 28//4/2011 بعنوان «أزمة تلد أزمة» اغنانى هذا المقال عن التفصيل فى نقد اطروحة السودان الجديد بعد الاختبار العملى الذى تعرضت له، لكن كما يقول اهل القانون والسياسة سنحتفظ بحقنا بنقد الاطروحة إذا ظل البعض يعتقد انها مازالت سلعة تصلح للتسويق فى السودان الشمالى، وقد خدع من تولوا كبرها مناصريهم واختاروا الانفصال وتركوهم «فلاتة في طلحة» كما يقول البقارة. والخطاب المستفز الذى قادته قيادات الحركة الشعبية من جنوب السودان امثال ربيكا قرنق ارملة الراحل جون قرنق وجيمس وانى رئيس برلمان الجنوب والمهندس اكول بول رئيس اتحاد شباب السودان الجديد وعدد آخر من القيادات الجنوبية، جعل الامير عبد الرحمن كمبال امير قبيلة اولاد حميد ووزير مالية جنوب كردفان الاسبق والقيادى بالمؤتمر الوطنى، يقول ساخرا ان الحركة الشعبية فى جبال النوبة تستعين بخبراء اجانب فى حملتها الانتخابية فى جنوب كردفان. وخلق ردة فعل سالبة ومضرة بالتعايش الذى حاولت شراكة المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية بناءه طيلة فترة حكم احمد هارون وعبد العزيز الحلو الماضية، وقال المهندس اكول بول فى خطابه لجماهير الحركة الشعبية اننا سنقف مع انسان الهامش ضد الظلم، وانه لا يستبعد ان تحدث معجزة وتحكم الحركة الشعبية دولتين جارتين ويجتمعوا فى مؤتمر لتوحيد السودان مرة اخرى «اجراس الحرية 19/4/2011». وحديث اكول بول فسره الخبثاء بانه دعوة مبكرة للحكم الذاتى فى جنوب كردفان، ووعده بالوقوف مع انسان الهامش فسر بمثابة اعلان مبكر بأن دولة الجنوب ستدعم اية حركة تمرد تنشأ فى الشمال. والحركة الشعبية بطرحها الانتخابى اثبت سطحيتها وضحالة فهمها لواقع الاحوال فى جنوب كردفان، فما عاد التهميش شعارا جاذبا فى الولاية، فولاية جنوب كردفان هى الآن من الولايات الاولى من حيث الموارد فى السودان، وتنتظمها حركة تنموية واسعة فى شتى مجالات التنمية جعلت احمد هارون مرشح المؤتمر الوطنى لمنصب الوالى يرفع شعار «ارفع رأسك انت من جنوب كردفان» فى محاولة منه لجعل ابن الولاية يعتز بهذا الانتماء ويشعر بالفخر بالانجازات التى تحققت وجعلت التهميش سلعة بائرة، لا كما قال عبد العزيز فى احدى خطاباته الجماهيرية بأن الطرق مقصود بهما امتصاص خيرات الولاية ونقلها الى الشمال، ونسى الاخ الحلو وهو اقتصادى ان التسويق هو اهم حلقات الانتاج. وطرحت الحركة الشعبية مبدأ علمانية نظام الحكم، وهو طرح لن يجد من يستمع اليه بعد انفصال الجنوب والاتجاه الى الدولة المدنية الديمقراطية فى الشمال، فحسب العرف الديمقراطى لا بد من الاحتكام الى رأى الاغلبية والاغلبية فى السودان الشمالى مسلمة تطالب بتحكيم الشريعة الاسلامية، لكن لحسن الحظ الشريعة نظام حكم مرن يراعى حقوق غير المسلمين، وطرحت الحركة الشعبية كذلك ان فوزها يعنى علاقة جوار حسنة وضمانا لحرية حركة الرعاة شمالا وجنوبا، وهذا تهديد مبطن للرعاة بأن لا مكان لكم فى مراعى الجنوب إذا لم تصوتوا للحركة الشعبية، لكن الحقيقة التى يجب الانتباه لها هى ان الحركة جنوبا لم تعد امرا مغريا فى ظل الاضطراب الامنى الذى يشهده الجنوب وتعدد حركات التمرد المتفلتة وإعلان منطقة ميوم منطقة عمليات، وهذه كلها بوادر تأسيس دولة فاشلة مضطربة امنيا يسود فيها الفساد المالى والادارى وضعف البنية التحتية للاقتصاد. وخطاب قيادات الصف الثالث حديثى الانتماء للحركة الشعبية «تأكل بارد»، هو أحد مصادر التوتر فى الولاية، فهو فى الغالب خطاب تحريضى عنصرى مثير للفتن ينذر بانفجار الصراع على النحو الذى حدث فى منطقة الفيض ام عبد الله، فقبيلة تقوى أحد اطراف الصراع فى منطقة الفيض ومعروف عنها تاريخيا انها اكثر قبائل تقلى تسامحا وقبولا للآخر، غير أن بعض ابنائها حديثى الانتماء للحركة الشعبية قادوا خطابا متطرفا وانقلبوا على مواثيق التعايش والاعراف التى كانت تحكم حياة القبائل المتجاورة من تقوى وحوازمة وسلامات. واستجاب الطرف الآخر لهذه الاستفزازات، وكانت النتيجة حدوث مجزرة فى الفيض لا نريد ان نتقمص فيها دور القاضى، لكن نطالب وزير الداخلية بأن يتدخل شخصيا ويكون لجنة تحقيق ذات مستوى عال يكون تقريرها مرتكزا ومرجعية لاتخاذ قرارات تنصف المظلوم وتحفظ امن واستقرار المنطقة، وتدرأ فتنا نرى نذرها تبدو الآن. الانتخابات فى ولاية جنوب كردفان تمرين ديمقراطى مهم ومدخل لتحديد الاوزان فى الولاية، ويجب أن تتقبل الاطراف المختلفة نتائجها بروح رياضية عالية وتسامح كبير. وعلى المؤتمر الوطنى ان يعترف بأن الحركة الشعبية فى جنوب كردفان فصيل مهم يجب ادارة حوارمعه، والاتفاق على ثوابت تساعد على استقرار الولاية امنيا، مما يساعد في استكمال مشروعات التنمية التى بدأت. وحتى لو خسرت الحركة الشعبية هذه الانتخابات وهى النتيجة الراجحة، فلا بد من تجديد الشراكة وتمثيل الحركة الشعبية فى الحكومة القادمة بنسبة المقاعد التى تحصل عليها فى المجلس التشريعى. كما ادعو الحركة الشعبية الى ان تحترم رغبة الاغلبية فى تحكيم الشريعة الاسلامية، وتتبنى خطابا تصالحيا مع جميع فئات المجتمع، وتبتعد عن الخطاب الاثنى الذى يثير النعرات القبلية. فجنوب كردفان ليست ملكا لقبيلة واحدة ولا لحزب واحد. والى جميع مواطنى جنوب كردفان اسوق حديث الشهيد على شريعتى قال شريعتى: « كانوا يسوقوننا احيانا الى الحرب، لحرب اناس لم نعرفهم ولم نكرههم من قبل، بل وربما لحرب اناس من مواطنينا ورفاقنا وأقرب الناس الينا، كنا نحن نساق للحرب، بينما ينتظر آباؤنا وامهاتنا المسنون عودتنا بفارغ الصبر، انتظارا من دون جدوى ولا نتيجة. هذه الحروب كانت حربا بين فريقين، لا يعرف احدهما الآخر، لحساب فريقين يعرف احدهما الآخر، ولكنهما لا يتقاتلان بأنفسهما. كنا نبيد بعضنا بعضا، اذ كنا مضطرين اما لنقتل ونقيم المذابح للآخرين، او نواجه الهزيمة، وعند الهزائم كان الخراب والمدن المهدمة والمزارع المحروقة الجرداء تبقى لنا ولآبائنا وامهاتنا. أما عند النصر، فقد كان المجد والعز يسجلان لغيرنا. هكذا كنا نحن ادوات فقط.. مهزومين في النصر كما في الهزيمة». اخوتى فى الحركة الشعبية تأملوا هذه الكلمات وتفكروا فيها جيدا، ولا تتركوا لمن اختاروا لانفسهم دولة منفصلة ان يقودوننا الى الحرب مرة اخرى، لأن الحرب هذه المرة ان حدثت سيكون مسرحها بالكامل داخل الولاية وستكون الطامة كبرى والمصيبة كبيرة، وعلى الباغى تدور الدوائر، وتعالوا نصنع ولاية مستقرة آمنة يتمتع فيها الجميع بحقوق متساوية.. تعالوا نؤسس حياتنا على حلف جديد يشبه حلف الفضول وهو حلف شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عنه بعد أن أكرمه الله بالرسالة «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لى به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت». انه حلف تعاقد وتعاهد من حضره على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، انه حلف روحه تنافي الحمية الجاهلية التي كانت العصبية تثيرها فى الجاهلية وتنافى الجو السالب الذى خلقته الحملة الانتخابية الآن، ومرة أخرى تقلي هي مهد الاسلام الاول فى جنوب كردفان، ويجب أن تظل كذلك ويا أحفاد ملوكها انتبهوا.