ولو أن المركز لم يترك لأهل الهامش سوى ما قاله اسماعيل حسن «ديل اهلي الببدوا الغير على ذاتم بقسموا اللقمة بيناتم حتى لو كان مصيرهم جوع»، لمنعتهم بساطتهم نفسها من الوقوف للتنتر والافتخار بما يجب ان يكونوا عليه. وتلك هي الحقيقة التي لا يراها الا من ترك الخرطوم ببهرجتها وانوارها الكاشفة ومعها نظرية انا في حالي وانت في حالك، متوجها الى اي من مناطق السودان البعيدة او القريبة في شرقه وغربه شماله وجنوبه، في جباله او صحاريه. وعندها فقط سيتسنى لك رؤية السوداني الحقيقي، ولم يكن صديقي كاذبا حينما ردد عباراته الجميلة «القيم السودانية تجدها في موسم الهجرة الى الهامش»، فهم يعرفون انهم يقيمون في هامش اهتمامات السلطة الخرطومية ما في ذلك شك، ولكنهم يقبعون في قلب السودنة وقيم الشهامة والكرم التي فيها اختلفت جغرافيا المناطق بين الجبال، فتلاقت القيم حيث نفس الصور التي عبرت عن نفسها في كردفان، ورسمت حروفها بلغة اخرى في اقاصي الشمال.. حكايات يجب التوقف عندها وسردها. محطة أولى: محمد طفل لم تتجاوز سنوات عمره الست، غير ان عقله اكبر من ذلك بكثير، وقد يبدو التساؤل منطقيا ما علاقة طفل لم يبلغ بعد الحلم بقيم سودانية موقعها الهامش هناك في اقاصي الغرب، وتحديدا في أرض وطأتها صراعات السياسة لتحول نهارات التعايش فيها الى براكين من الدماء. ففي الفيض عبد الله رمت بنا اقدار العمل لنبيت في منزله ونتبادل معه اطراف الحديث، إلا أن حديثاً مصدره أهل الفيض جعلنا نتوقف كثيرا، فقفص الدجاج المملوك للصغير مغلقة ابوابه بالطبلة والمفتاح امام الجميع، الا ان هذه الابواب تفتح على مصراعيها حينما يأتي قادم ضيفاً. هكذا حكى لي الكبار، فوقفت مشدوها امامه، ولم تطل الدهشة كثيرا ومحمد يرافقنا كظلنا طوال فترة وجودنا في المنزل. وعندما جاءت لحظة الغداء سمعت الصغير ينادي أخاه الأصغر: يا ولد جيب الاباريق.. قبل أن يمد قامته القصيرة من خلف الشباك مناديا على أمه «امي جيبوا الغداء». وانتهت الجولة ولكن لم تنتهِ معركة محمد بعد، ففي الصباح الباكر قام بتجهيز كل مطلوباتنا قبل أن يتوجه مرة اخرى لقفصه ويأتي حاملا دجاجتين تسبقهما السكين وصوته مناديا على احد الشباب: هاك أضبح ديل.. قبل أن يعود ليقول: ديل ما بكفن اصبر نجيب التالتة.. وخرجنا نحن دون أن نودعه خوفاً من ردة فعله الرافضة لمغادرتنا، دون أن يقوم بواجبه تجاه ضيوفه. محطة تانية: هنا في منطقة أبو كرشولا جنوب كردفان، ثمة رواكيب متناثرة، وثمة نساء ينتظرن رزقهم على اقدام الواردين.. وهناك عدد من عربات اللوري تقف ليتزود أهلها ببعض من الشاي ولقيمات تقم صلب من يمتطيها لأجل مواصلة الرحلة. وبعد الهبوط من شارع الهواء جلست على اريكة السودنة وامامها بنابرها.. اسمها الخالة قسيمة.. امرأة من رحيق الدهشة الاولى.. من تقطعت به السبل هناك، ففي دكانها الذي يتسع لكل الضيوف وعناقريبها الوثيرة بلحاف كرمها الفياض، تجلس هنا منذ سنوات، تجمع ما جادت به قريحة الرزق، ولكنها تضع بصمتها في دواخل كل القادمين.. تعرف الضيوف بسيمائهم، وترضع صغيراتها من نفس الحليب قيمة اخرى للكرم مصدرها في هذه المرة امرأة تقابلك بالابتسامة التي تودعك بها، بعد ان تملأك فرحا وسرورا. ان الخير مازال في ناس السودان وفي نسائه.. من أخبروني عنها قالوا انها في سيمتها تلك منذ عشرين عاما لم تغيرها تفاصيل الزمن. محطة لن تكون الأخيرة: هنا هامش آخر.. جزر المناصير بمد الكرم الذي فيها.. انت محظوظ إن كنت هناك، واكثر حظا لو ان عربتك قد وحلها الرمل.. عندها ستلتقي بأناس اروع ما فيهم بساطتهم ومعدنهم أغلى من الذهب.. الاقدام التي تغوص في الرمل تمد بخطواتها من اجل اللحاق بالواجب.. الايادي لا تعرف الخواء.. هناك البعض يحمل الذي يجده امامه.. وادوات الحفر تضيق بها الرمال لتخرج العربة.. ولكن سيوحل من يركبونها في محاولة خروجهم من اصرار الجميع على المبيت. هنا تحل المعضلة ولكنها حتما تعاودك صباحا، والكل يحمل «ثيرمس» الشاي واللقيمات، وقبل أن تنقضي تأتي صواني الفطور التي تتبعك في كل مكان حتى في الحقول، والشباب يغتالهم الإصرار على أن اضع يدي في طعامهم، وما اشهاه من طعام.. كلهم هكذا وفي اية نقطة من وطني.. وصدق الذي قال إن القيم تكون حيث تكون البساطة والطيبة والشهامة.. وهي التوصيفات التي تسبق وصف أنا سوداني.