مجددا، دفعت امبراطورية السدود مسؤولا اخر فى الجهاز الحكومي للاستقالة احتراما لواجبات العمل الذي اؤتمن عليه،واحتجاجا على الطريقة الاستعلائية التي تتبعها الهيئة فى تعاملها مع جميع مراكز الدولة ومؤسساتها التي يوقعها حظها العاثر فى طريق مشاريعها. والجديد فى هذه الاستقالة انها اتت هذه المرة من قلب الخرطوم، ومن المدير العالم للهيئة القومية للغابات د. عبد العظيم ميرغني،والذي سببها كتابة لوزير البيئة والغابات بالطريقة الفوقية التي اتبعتها الوحدة لفك الحظرعن غابة الفيل، قبل ان تنهال عليها تقطيعا وتدميرا لبناء مطار يخدم اقامة مشروعها فى ستيت واعالى نهر عطبرة على حين غرة. ويرى مدير الغابات فى استقالته المسببة ان السدود تجاوزت فى ذلك، سلطة الغابات المناط بها الحفاظ على ثروة السودان الخضراء، ومضت الى قطع الاشجار وازالة الغطاء النباتي رغم الاحتجاج القوى الذي بادرت به الهيئة، والجمعيات الوطنية المعنية بالحفاظ على البيئة، مفندا المبررات التي ساقتها السدود لجهة ان بالمنطقة مطارا بديلا هو العزازة يصلح للغرض الذي تبتغيه من توفير للمعينات اللازمة لمشروع سد ستيت. ومضى ميرغني ليشرح المخالفات التي وقعت فيها السدود وهى تعمل منفردة من اجل الحصول على قرار جمهوري بفك الحظر، موضحا ان ذلك كان يستوجب اولا من الجهة المنفذة، عمل دراسة جدوى بيئية و من ثم الحصول من بعد ذلك على موافقة من رئاسة الجمهورية،بعد صدور توصية من مجلس الوزراء. ورغم الحديث المتداول عن مساع لاثناء العالم عن استقالته، فإن الامر كما يبدو قد نفذ، لان آليات السدود لم تتوقف عن العمل وجز الاشجار لحظة واحدة، ولم تكلف الادارة المعنية نفسها بإدارة حوار عقلاني مع جهة حكومية اخرى هى الغابات، للوصول الى حل مرضٍ للازمة، بينما توجه المدير المستقيل الى العاصمة المصرية ليقطع الطريق، على وساطات القيادات الحكومية المشفقة. وهو ما سيقود لفوضى ادارية تعاني منها اجهزة الدولة بالفعل، كما قال الخبير الاقتصادي بروفيسور عصام بوب،والذي حذر فى حديثه مع «الصحافة» ،بالأمس، من حدوث فوضى كاملة فى الدولة نتيجة لهذا التعدى الذي رأى انه ليس صحيحا بالمرة. وقال بوب ان انشاء المشاريع القومية لا يبرر تجاوز المبادئ الاساسية لدستور البلاد،مشيرا الى ان مدير الغابات هو المسؤول الاول والاخير عن كل غابات السودان بحسب الدستور والقوانين،وان بدون موافقته على اية مشاريع ترتكز على ازالة مساحات منها، لا يجب ان يتم اتخاذ مثل هذا القرار، الذي مكن الوحدة من فك الحظر عن غابة الفيل. واعتبر البروفيسور عصام بوب ان استقالة د. عبد العظيم ميرغني تعبير بليغ عن عجزه فى مواجهة قرار فك الحجز وزالة الغابة. ولان الصراع بين الغابات والوحدة كان حول قضية يهتم الرأى العام بمتابعتها ، وترتبط بها جهات اخرى فى المجتمع المدني السوداني، فقد دخلت على الخط كما هو متوقع الجمعية السودانية لحماية البيئة.والتي استنكر ايضا ممثلها د. معاوية شداد عدم قيام إدارة السدود بتقديم دراسة جدوى بيئية، توضح الآثار السالبة لقيام المطار في موقع الغابة، مبينا أهمية إعداد دراسات جدوى بيئية لكافة المشاريع التنموية والاستثمارية، ومطالبا بالوقف الفوري للدمار الذي يحدث في الغابة من قبل وحدة السدود،كما طالب شداد بجلوس تلك الوحدة مع كل الجهات ذات الصلة وخاصة الرعاة وأهل القرى المستفيدين من الغابة،لدراسة الآثار السالبة للمطار المقترح. لكن ما تفضلت به اهم منظمات المجتمع المدني السوداني،واكثرها مصداقية، لم يتجاوز تأثيره المكان الذي طرحته به. اذا ان الوحدة مضت الى اكمال مهمتها غير عابئة بأحد. وهو الأمر الذي يرى فيه شداد تأكيدا على مضى الوحدة الحكومية فى تنفيذ مخططاتها، دون وضع اعتبار للمخاطر البيئية التي ستترتب على ازالة الغطاء النباتي بالمنطقة المعنية. وباستقالة عبد العظيم ميرغني تزداد قائمة المسؤولين المستقيلين فى جهات مختلفة من الدولة،كنتيجة مباشرة لدخولهم فى صراع مع الهيئة. فقد استقال من قبل نائب والي الولاية الشمالية ووزير الاستثمار فى ذات الوقت،وقد سبقهما فى تقديم الاستقالة الوالي الأسبق للولاية، بسبب سيطرة الوحدة على اراضي الشمالية. ورغم ان الصدام بين الولاية والوحدة المعنية قد هدأت حدته بمرور الايام، الا ان فتيله لم ينزع حتى الان . فقد استنكر بالامس القريب قيادي معارض فى المؤتمر الشعبي، فحوى القرار207 الذي تم بموجبه منح 95% من اراضي الشمالية الى الوحدة، لتتصرف منفردة فى هذه المساحات الشاسعة بالبيع والرهن دون الرجوع لجهة فى الدولة، واعتبر القيادي الشعبي حسن ساتي ان ما تبقي لاهل الشمالية من اراضٍ على الشريط النيلي، مهدد الآن بالخطط الحكومية لمنح مصر مليون فدان فى الولاية. ورأى ساتي ان ذلك الوضع قد يدفع بخلق بؤر لصراع سياسي فى المنطقة. وتحذيرات القيادي المعارض قد تذهب ادراج الريح، لانها ستضع فى خانة التأليب وخدمة المصالح والاغراض،الا انها تؤشر مثل غيرها من تحذيرات وانتقادات صوبت تجاه الوحدة، و تجاه الطريق الذي اختارت ان تسلكه لتنفيذ مشاريعها القومية المهمة، تؤشر إلى شيوع حالة عدم الرضا عن اسلوبها فى العمل.ولئن كان ميرغني اخر ضحايا السدود، فقد كان اولها كما هو معلوم مدير الهيئة القومية للكهرباءالسابق مكاوي محمد عوض، وذلك عندما ارادت الوحدة ان تستأثر بإدارة الكهرباء المتولدة من سد مروى الذي بنته.كما يجب الاشارة الى ان الوحدة تتجاهل دعوات مشبوبة بالوعيد ،من مكونات بشرق السودان، بعدم المضي فى تنفيذ مشروع ستيت ،دون ايفاء أهل الاراضي التي يقام عليها حقهم من المشورة ،ومن الاراضي التي سيرويها الخزان والتي تقدر المرحلة الاولى منها ب«500» الف فدان. والشاهد ان الوحدة تقول ان مجموع القرى والتجمعات السكانية التي ستتأثر بقيام سد ستيت «52» قرية، تضم حوالي «109900» أسرة متأثرة تأثيراً كلياً وجزئياً، وانه سيتم بعد الاستئناف ونشر الكشوفات اختيار مواقع اعادة التوطين وبناء المساكن وانشاء المشاريع الزراعية والخدمات للمتأثرين، فى حين تصر قيادات محلية بأن القرى التي ستتأثر يزيد عددها عن 1000 قرية .وقد لا تعبأ ادارة السدود بهذه المكونات،وذلك فى ضوء التصريحات التي اطلقها الوزير اسامة عبدالله فى جولته الميدانية بالمشروع،والتي طالب فيها نصا بإبعاد المشروعات القومية عن الخلافات القبلية. ولكن كيف يتأتى لهذه الوحدة النفاذ دون ابطاء الى اهدافها بدعم واضح من اعلى القيادات فى البلاد، ولماذا لا تعمل الوحدة بتناغم وتنسيق مع مؤسسات الدولة الاخرى، طالما ان الكل يعمل لتنفيذ استراتيجياتها وخطط الحزب الذي يدير حكومتها؟. يفسر البرفيسور عصام بوب ذلك بالوضع الخاص الذي تتمتع به الوحدة نتيجة لتبعيتها المباشرة لرئيس الجهورية. الا ان بوب يستنكر ان يكون هذا الوضع الخاص دافعا للوحدة بأن تكون «بتاعة كله»، فبوب يلفت الى ان عملية انشاء المطارات تقع تحت صلاحيات سلطة الطيران المدني، وان وحدة السدود ليست لها صلة بمثل هذه الانشاءات القومية التي توكل عادة الى مؤسسات متخصصة. ويشدد البرفيسور بوب على ان تعدى هيئة حكومية على اختصاصات هيئة اخرى غير مقبول، وخاصة ان كان التعدى قد تم على عمل مؤسسات فنية متخصصة مثل الطيران المدني وهيئة الغابات. ولكن كثيرا من الذيين تتبعوا اداء الوحدة،وشهدوا معاركها مع الجهات الحكومية الاخرى، يرجعون انتصاراتها الى شخص وزير الكهرباء والسدود اسامة عبد الله، وليس الى تبعية الوحدة الى رئاسة الجمهورية ،فسهم اسامة كما يرون فى الحزب الحاكم عظيم،غير ان ترؤسه الان لوزارة بحجم الكهرباء والسدود يرتبط حسن ادائها للمهام الوكله لها،بالتنسيق الدقيق مع بقية الوزارات والاجهزة الحكومية الأخرى، يفرض على الرجل مقاربة قد يكون غير مهيأ لها.ورغم ان البرلمان اجاز قبل ايام قليلة خطط الوزارة ومشروعاتها لهذا العام فى اطار دوره النيابي ومتابعته للاداء الحكومي ككل، فإن التوقعات تذهب الى ان المستقبل القريب سيحمل صداما جديدا بين الوحدة وجهاز حكومي اخر، فهل ستصدق؟.