يعتبر الحكم المحلي من الوحدات الحكومية الراسخة، كما يعتبر هو السلم الاول بالنزول الى تلمس طلبات واحتياجات المواطنين. ففي العام 7391م ابتدأ انشاء مجالس الحكم المحلي في البلديات الكبرى في المدن الصغرى وفي المناطق الريفية. وفي العام 2491م، استصدر قرار تأسيس مجالس الحكم التي تتمتع بمزيد من السلطات التنفيذية خاصة في المدن. وفي العام 1591م، استصدر قرار قانون الحكم المحلي بحسب توصيات د. هدلي مارشال خبير الحكم المحلي البريطاني، حيث يوصف بالقانون الاساس. وفي العام 1791م، استصدر قانون الحكم الشعبي المحلي، الذي يعتبر نقطة التحول الكبرى في مسيرة الحكم المحلي في السودان، وهذا التحول يراه بعضهم تحولا نحو الافضل، وبعضهم الآخر يراه تحولا نحو الاسوأ في ظل نظام الحكم الشمولي السائد وقتئذ في البلاد - حكومة مايو 9691م. مما سبق ذكره يلاحظ ان القانونين: قانون مارشال، وقانون جعفر بخيت، يعتبران القانونان المفصليان في مسيرة الحكم المحلي، ولكل واحد منهما ايجابياته وسلبياته نوضحه في التالي: - كان د. هدلي مارشال يرمي الى: ابعاد الحكم المحلي عن القضاء والسياسة. - وكان د. جعفر بخيت يرمي الى: تأسيس الحكم المحلي كوحدة محترفة لشؤون الادارة والمال، يضاف اليها اعباء الشؤون الاقتصادية بالقيام بمهمة تقديم الخدمات والتنمية وتمثيل الوزارات القومية دعماً لرمزية السيادة والتوجه نحو المشاركة الشعبية الفاعلة في اطار الثورة الادارية، التي تحمل مضامين العنكبوتية والشمولية. وبالنظر الى التوجهين فان كلاهما له وجاهته، ولكن بمنظور الواقع السوداني، ونسبة لان د. جعفر بخيت ابن السودان وملم بطبيعة واهل البلد، ولدراساته العليا التي تلقاها باميركا، حيث المجتمع متعدد المشارب والاصول، وبلد مترامي الاطراف، حيث يصعب بالتالي اعتماد مبدأ المركزية المميت، وهي ذات ظروف السودان البلد مترامي الاطراف سابقاً وحالياً - بعد الانفصال - نرى ان توجهه يقارب الحقيقة، ويتضح ذلك جلياً من حيث النقلة الكبيرة التي احدثها قانون العام 1791، الذي اسهم كثيراً في نقل السلطات الى يد الجماهير، الذي شكل التمهيد الجيد لتأسيس الحكم الاقليمي في العام 0891م، الذي احدث افرازات سالبة عدة، خاصة ميلاد المشكلات القبلية والجهوية لسبب انتخابات المجالس المحلية ومجالس الشعب الاقليمية والقومية، والمناداة الجهوية بالتوزيع العادل للثروة والسلطة، ومشكلة دارفور تعتبر صورة حية لتداعيات تلك المرحلة، للتطبيق الخاطئ لبنود وموجهات الحكم الاقليمي، كما ساهم قانون العام 1791م، في تقديم الخدمات الاساسية وقيام بعض مشاريع التنمية الاجتماعية خاصة مثل: دور العلم والعبادة والاندية الثقافية والشبابية والرياضية. وفي عهد ثورة الانقاذ الوطني، استصدرت قوانين شتى، ولكن يشكل قانون العام 1991م، علامة فارقة في مسيرة الحكم المحلي، واوضح ما في هذا القانون انه سلم السلطة المحلية باكملها للشعب، بحيث اصبح رئيس المحلية قائد المجلس، وتعاونه اللجان المتخصصة من عضوية المجلس، واصبح الضابط الاداري أميناً للخزينة، ويأتمر باوامر رئيس المجلس، ويقوم بتنفيذ الاوامر الصادرة من المجلس بخصوص الصرف على الخدمات كافة بالمجلس، بما فيها المرتبات. واعتقد ان الغاية من هذه السياسة، هي اظهار المشاركة الشعبية الحقيقية، ودفعه للقبول بفرض الرسوم الجديدة وتحمل الصرف على المرتبات والخدمات واوجه الصرف السياسي، وقتئذ، على معسكرات الدفاع الشعبي والشرطة الشعبية والتجريدات والقوافل الجهادية المتجهة لمواقع العمليات بجنوب السودان، اثناء استعار الحرب، والشرخ الذي احدثته المعارضة الشمالية فيما عرف بالتجمع الوطني الديمقراطي المعارض في شرق السودان. وقانون العام 5991م، الذي استصدر في هذا العهد لا يختلف عن القانون الذي سبقه، بل احدث نقلة نوعية في الجانب الاداري، حيث تم تنزيل صلاحيات تنفيذية واسعة، اسندت للضابط الاداري، تحت مسمى، المدير التنفيذي، يعاونه في تنفيذ تلك الصلاحيات كادر اداري فني يمثل الادارات المعروفة، كالتعليم والصحة والتنظيم والهندسة وغيرها. واسند الجانب الامني والسياسي والقيادي لرئيس المحلية، ونذكر بان اسم المجلس تحول الى اسم محلية. اعتقد ان هذا القانون يعد تطوراً كبيراً في مسيرة الحكم المحلي، ولكن يعاب عليه امور منها: قلة المال، اذ انه تم الغاء ضريبة الجبانة والعشور، التي تعتبر العمود الفقري لدعم ايرادات المحليات في انحاء السودان كافة، وان كان الاثر عظيما في محليات ولايات الانتاج الزراعي: كالقضارف، وجنوب دارفور، وجنوب كردفان والنيل الازرق، وان القانون لم يحالفه الحظ بتوفر الكوادر الفنية المدربة بالانتقال بالعمل بالمحليات، في ظل عدم توفر الخدمات الجليلة لهم في تلك البقاع النائية، كالتعليم الجيد وخدمات الكهرباء والماء النقي، وعدم توفر الوسائط الاعلامية في ذلك الوقت، وانعدام مساحات الترفيه والتسالي الراقية لهم ولاسرهم. وباختصار فان هذه المحليات تعتبر مناطق شدة لا تشكل مناخاً جاذباً لكوادر هذا الزمان، حيث عصر ثورة الاتصالات وتدفق المعلومات، ولكن اداريي ذاك الزمان الذي سبق عاشوا في تلك الاصقاع النائية واندمجوا فيها وفعّلوا الجماهير وساهموا كثيراً في انشاء المراكز الصحية والمدارس وحفر الآبار الجوفية، وما يزال المواطنون يرددون بعض اسماء تلك النجوم في سماوات الريف والمدن: أحمد شيخ ادريس مناع، فؤاد عيد، آدم الزين محمد، فاروق البشرى، جبريل تية، عبد القادر محمد توم، حامد يوسف آدم، السماني المكي علي، والقائمة تطول لا يسع المجال لذكرهم، فللاموات الرحمة والغفران وللاحياء التحيات الزاكيات ودمتم ذخراً للوطن، واين انتم.. ايها الخبراء؟ ونعود ونقول هناك بعض الجهود بذلت في سبيل تهيئة بيئة السكن في المحليات البعيدة، بتأسيس اندية المشاهدة التي تعتمد على توليد الكهرباء بالوابورات وتأسيس المنازل والاستراحات والميز. وفي تطور آخر وليس أخير بمعية عهد الانقاذ الوطني وقبل إقرار اتفاقية نيفاشا 5002م، تم استصدار القانون الاطاري للعام 3002م، الذي بموجبه تم دمج المحليات الصغيرة في محليات اكبر، وتم الغاء اسم المحافظة والمحافظ وتم استبدالهما باسم محلية وباسم معتمد، حيث تم منح المعتمد صلاحيات ادارية ومالية واسعة ومسؤولية امنية وسياسية، وسمى الضابط الاداري، مديرا تنفيذيا، وهذا المسمى ليس بجديد على الضابط الاداري، اذ كان هذا الاسم موجودا في قانون العام 1891م، وقانون 1991م، وفي هذا القانون الجديد يكون مسؤولاً عن حسن اداء العاملين بالمحلية وينوب عن المعتمد في حالة غيابه. هذا القانون من عيوبه، انه حجّم دور الضباط الاداري كثيراً بل جعله يدور في فلك المعتمد، على العكس تماما عما عرف عن الضابط الاداري القائد والموجه لاعمال المحلية الادارية والمالية، والمشرف على تنفيذ مشاريع التنمية، والمبادر في تقديم الخدمات، والممثل للوالي بل لرئيس الجمهورية في ظل قانون 1891م. وفي ظل تنفيذ هذه المهام كان الضابط الاداري يعاني الامرين بسبب المشاكسات التي تصله من اعداء سريان العمل على هذا المنوال الراقي، والحاسدين للفتيان اصحاب الزي المضيء، الذي شبه ببقايا الاستعمار. ولماذا لم يشبه عند الآخرين بذلك التشبيه المحرض؟ هذا فضلاً عن المعوقات التقليدية السائدة بين أبناء المناطق بسبب السياسة والرأي المخالف، علاوة على عدم استتباب الامن في كثير من الاوقات في المناطق البعيدة، واحسب انها هي الشرر لكثير من حالات المشهد الماثل. وكان الضابط الاداري يعاني كثيراً في سبيل الحصول على مقاولين اكفاء لتولي عملية تنفيذ اعمال المباني والانشاءات الجديدة، ويعاني من عدم توفر وارتفاع اسعار مواد البناء، ويعاني ايضاً من صعوبة ترحيلها الى المنطقة لوعورة الطرق وانقطاعها أحياناً. ومن الملاحظات حول الاداء التنفيذي ان الاخوة المعتمدين ميالون للجانب السياسي والصرف السخي على البرامج السياسية دون الالتفات كثيراً الى البرامج الخدمية والتنموية بالقدر الكافي، مع ادراك ان الجانب الخدمي هو الاهم في الظروف الطبيعية، لان المواطن بحجم دفعه للرسوم والضرائب دائماً عنقه مشرئبة لمعرفة اين ذهبت تلك الاموال؟ ويسره ان يرى ان الطرق شيدت، وان المجاري فتحت، وان المدارس شيدت وصينت، وهكذا. ويعد هذا التطواف المختصر في مسيرة الحكم المحلي في ظل القوانين المفصلية التي استصدرت في فترات زمنية مختلفة، يتضح بما لا يدع مجالاً للشك ان المحليات هي: الطليعة الحكومية الرسمية ذات الاتصال المباشر بالجمهور، ويطلب منها النظر في طلباته وتلبية احتياجاته الاساسية في مجال الصحة والتعليم وخدمات الشرطة والامن وخلافه، وهي تمثل السلطة العليا بانزال التوجهات والتشريعات المختلفة التي تنظم حياة المجتمعات الحضرية والريفية والبدو، وان العلاقة بين الطرفين علاقة تبادلية بالمنافع والمصالح من ناحية وبالحماية والدعم من ناحية أخرى. ويطلب من كليهما تقديم ذلك بالقدر المطلوب لرقي وتقدم المجتمعات ولسيادة المرفق والاجهزة. والله الموفق ضابط اداري بولاية سنار