الأمر إذن كان كذلك وما زال في نظام دولة لا يكاد يعرف منذ الاستقلال مناهج التخطيط البشرى ، ولا يعبأ عبر عهوده الديمقراطية وحكم الفرد العسكري بسياسات التنمية الراشدة بالبشر لتوظيف إستحقاقات التقدم الاجتماعي والاقتصادي والصناعي والمعرفي . كل شئ سار طوال حقب على وتيرة « دع الكرة تقذف نفسها أو تتدحرج وحدها « ، والحلاقيم هي معيار الإنجاز عندنا تجعجع رحىً بلا طحن .. أمام مكبرات صوتها روح القطيع من جمهور مصنوع لمناسبات الهتاف الغوغائي المخاتل ، رافعين مقدسات الوجدان شعارات لا يراد بها حق سوى تنكيس الارادات وقوى الرأي العام ، وليذهب ملاك البلد من ثروته البشرية الواعدة - وهي ليست كبيرة - إلى مراثي النسيان والغمط ، وإن وجد معدودهم القليل مجالاً للعمل فإلى الإقصاء والتشريد بمبررات الصالح العام ونواميس التطهير التي أبدعها العقل السياسي الماجد في السودان كإسهام فريد في مخترعات العصر الحديث . عن بطن الحجر وعن موطنى في شمال الشمال ، فإني قلت ما عايشت من بيئة أعرفها هي مكاني ووجودي ، لكن كم من أنماط ونماذج بشرية ضائعة في محليات السودان المليوني المساحة - كما نغرر أنفسنا ببلد المليون ميل مربع - . هناك من اخترعوا أو إبتكروا أو أبدعوا في الشمال والشرق والوسط والغرب والجنوب ، كان حظ من فضحه صوت ابتكاره القمع والمحاكمة بتأويل عمله إزعاجا عاماً وإخلالاً بالأمان والطمأنينة . ذات مأمورية في مدينة النهود بكردفان شاهدت مخزناً مليئاً ببنادق صيد مصنوعة محليا بأيد سودانية بدوية ، كامل مركباتها مواد من البيئة « ضبطتها « الشرطة كمعروضات جنائية وألقت القبض على صانعيها بين «منتظر في الحراسات» ومحكوم عليه . ضحكت للمفارقة . ناقشت وحاورت ولم أجد أذناً صاغية سوى الاستخفاف برأيي ، فأولئك في قانونهم جناة يهددون أمن البلد بأسلحة غير مرخصة يبيعونها للناس ، ويصنعونها بلا إذن ولا ترخيص من السلطات . حسنا . جرمتموهم وحاكمتموهم ، ألا من فكرة تهدى السياسات إلى رعاية هذه الملكات نواةً لصناع مهنيين يلحقون مثلاً بفرع سلاح الأسلحة وموالاتهم بمحو الأمية والتدريب الفني والتعليم ، وإعدادهم فنيين في مجالات فطرتها عليهم طبيعتهم ؟ إن مخترع ( الكلاشنكوف ) جندى روسي وَسَمُوا إختراعه بوسمه واسمه . وقد يأتي صانع أو مخترع سوداني إذا حظي بالرعاية وأكسبوه العلم الموصل وابتعث لدول الصناعة والتكنولوجيا ، وليس شرطاً أن يكون ذلك الشخص من الأفندية خريجي التعليم النظامي ، فكم من كم مهمل في بوادينا وقرانا ممن أعدتهم الفطرة الملهمة عايشوا تحت ركام من الحجب الداجية . والآن ونحن في الذكرى التاسعة والأربعين لاستقلال السودان ورفع علمه الوطني فإننا لا نزال نحلم بما لم يتحقق من أمانينا الوطنية . على النقيض ، جرت مياه سامة كثيرة تحت الجسور نسفت بشراً واجتاحت أرضاً وعماراً وغيبت عقولاً وطاقات وبوادر ثروة بشرية . حقيقة لم تعرف بلادنا ماهية ثقافة التطور وصنع الحياة العصرية . هناك في ماليزيا شمر رجال الاستقلال مع تنكو عبدالرحمن عن سواعد الجد ، وقرنوا التحرير بالتعمير .. كان الرواد البناة الذين بعثوا النهضة الصناعية في البلاد هم شباب ورجال من نخبة الأدمغة أرسلوا إلى الدول الصناعية الكبرى ، فنقلوا ما ناسبهم من العلوم والتكنولوجيا إلى الملايو .. والهند على يد نهرو ورفاقه وضعت حجر الأساس في « بنغالور» للتكنولوجيا الحديثة وعلوم الحاسوب ، فكان التراكم النوعي والكمي الذي تزدهى بإنجازاته الهند في يومنا الحاضر . « بطن الحجر « عندنا مثال من أمثلة ذات عد في أصقاع السودان ، لو وجدت هي وأخواتها في اتجاهات السودان الأربعة قليلا من العناية والاهتمام لكانت « الأنثروبولوجيا « و « السوسولوجيا « و « التكنولوجيا « أنجزت صياغة إنسان جديد يحقق به البلد نهضة تنموية شاملة في الاقتصاد والصناعة والخدمات والمعرفة . أهم من ذلك أن اتساق الأوضاع « الجهوية « والجهوية أدبيات بشرت بها أوضاع البيئة السياسية المعتلة في السودان كان سيتلقى خدمة جليلة إذا ما وفرت الخطط وموجهات التعليم التقني كوادر ماهرة من اليد العاملة تتساكن في محلياتها وتستقر في المرافق والمنشآت التنموية التي تتوطن في تلك المحليات بما يتماثل مع نوع التقنية والحرفة المكتسبة والمستمدة طبيعةً أو إرثاً من البيئة الاجتماعية والمحيطة . وإذا كان أبناء بطن الحجر على سبيل المثال ألصق بمنطقتهم فيما مضى واستقروا فيها عشقا وولاءً ، فذلك درس مستفاد في سياق مقولات الضرورة بأن يلزم كل منا جهته وموطنه في رقعة الوطن ، وأن ينهض بمنطقته حتى ينهض الوطن . لنتحرر قليلاً من خرافة الأرض الطاردة . هذه هي المفاهيم الإيجابية لمصطلح (الجهوية) . أن تعد لها كوادرها من بنيها بالمهارات التي تلائمها وبنيات العمل والمؤسسات التي ستعمل فيها. أما ترويج أن الوطن للجميع وأن حرية الانتقال والهجرة والإقامة على إطلاقها مكفولة في أي مكان فيه فهذا تضليل يساوقه مبطلو وحدة الوطن ومواطنيه . مساوئ الانتقال والتمازج الكاذب أبلغ صورة في الضرر بالوطن واستقراره ، ولا يقتصر ذلك على إفقار « جهويات « النزوح وخنق مناطق الجذب ومدنها ، إنما يمتد لترسيب ظواهر اجتماعية معبأة بالشقاق والأحقاد المفضية إلى التناحر والتكتل . خير السودان : كن حيث المنشأ ، وأرجعني إلى موطني الأول بخيرِ رفدٍ تستطيعه لا إلى فراغ وخراب ، ودع كلا منا في مكانه ينافس الآخر في مكانه بتنمية جهته ومحلياته ٭. لعلني أسمعت حياً من حدود بطن الحجر ، ولعل أبناءها البررة يدخلون في موازين التخطيط البشري ويصحو لهم عقل مفكر في غرفة السياسات السودانية ، ليكافأوا من أجل السودان هم وأضرابهم في الوطن على كفاءاتهم الفطرية المهداة من عبقرية المكان . إذن لو كان كذلك أهلاً بذكرى الاستقلال ، وكل عام والسودان بخير . صلاح دهب فضل حاشية : * موضع النجمة أعلاه والفقرة بكاملها مناظرة تستدعي الرأي الآخر من دون شك (Debatable) . لضيق الظرف والمناسبة التي طلبت لها كتابة موضوع مناسب ، فلم يسمح لي المجال باستقصاء هذا الرأي تفصيلاً ، كما أن المقال في عمومه جاء موجزاً وإن كنت آمل أن يأتي هكذا قليلاً ودالاً وشافياً . قبل أن ترد تعقيبات من القراء الأعزاء ، حول القضية المطروحة في موضع النجمة أستميحهم أن يمهلوني لمقال توأم فيه وجهة نظري مسببة ومسوغة وإن سبحت ضد التيار للذهنية السودانية .. فما قصدت والله تكريس الأقليمية الجهوية بقدر ما أن النزوحات المنفلتة تعوزها الضوابط والضبط .. وليست هي مدموغة بصفة مطلقة ، ولا هي مرجوة بصفة مطلقة . ٭ عن مجلة الدعاش الصادرة عن الجالية السودانية بمسقط- عمان