٭ غيب الموت يوم الاثنين الماضي الخامس من سبتمبر 1102م الفقيه العالم الداعية الشيخ ونسي محمد خير احمد البدوي، الاستاذ السابق في جامعة افريقيا العالمية، وأحد ابرز الدعاة ورجال التربية والعلم الذين تربت على ايديهم جماعات وارتال من التلامذة والمتعلمين من داخل السودان وخارجه. ولد الشيخ ونسي محمد خير في منطقة لقاوة بجنوب كردفان في حدود 0391 في اسرة علم وادب ودين وتربية معروف لها الصلاح في منطقة المسيرية وقد ارسله والده الى خلوة الفكي الضيف في ارياف مدينة ابوزبد لدراسة القرآن الكريم، ثم واصل تعليمه في مدرسة ابوزبد الصغرى والمجلد الاولية وقبل في معهد إعداد المعلمين في بخت الرضا لكنه وهو في طريقه الى بخت الرضا حول وجهته الى معهد النهود العلمي ومنه الى معهد امدرمان العلمي الثانوي ثم كلية الشريعة بالازهر الشريف في بدايات الخمسينات. وقد التحق الشيخ بعد تخرجه بوزارة التربية والتعليم حيث طاف على عدد كبير من معاهد ومدارس السودان ابتداءً من معهد نعيمة، والمدرسة الاميرية الوسطى بام درمان، ومعهد الرهد العلمي، ومدارس ابو جبيهة والفولا الوسطى، ثم عطبرة الثانوية، ثم مديراً لسنجة الثانوية، وكادقلي الثانوية، واسماعيل الولي الثانوية بالابيض وام روابة الثانوية.. ثم مديرا للمرحلة الثانوية بجنوب كردفان وأخيراً استاذاً بجامعة لفريقيا وكانت هذه اخر وظائفه الرسمية حيث تقاعد للمعاش. وقد تشكلت شخصية الراحل ونسي محمد خير من هذه البيئات المختلفة والمتداخلة التي عاشها في دراسته وعمله اضافة الى التأثير الاكبر الذي تعزز لديه من اسرته المعروفة بتدينها وطهارتها وكرمها، وتأثير أهله المسيرية المعروفون بالكرم والبشاشة والنخوة والتدين الفطري.. فالمسيرية الذين لا يعرفهم الكثيرون إلا في لحظات النزال والشدة هم أهل تدين فطري ويكفيهم أنهم احد القبائل والمجموعات السكانية النادرة في السودان التي لا تشرب الخمر قط رغم أن معظم قبائل السودان عرباً وعجماً.. كما أنهم لا يتعاطون التمباك أو الدخان.. ويعدونهما محرمات بمنزلة الخمر ويعافون حتى من يستخدهما فلا يؤاكلونه أو يشاربونه.. ولا شك ان بيئة الشيخ ونسي في داره وبيت ابيه وجده، ورعاية والده له، واتصاله المستمر بالعلماء والفقهاء والعباد ومعلمي القرآن الكريم وارتباطه بخلق العلم في المساجد والاروقة اضافة الى هذه البيئات السودانية المختلفة، واختلاطه بطلاب وعلماء الازهر الذين كانوا يأتون من كل فج ولا شك ان كل ذلك قد سقى بذرة الصلاح في شيخنا. وقد تتلمذت مثل عشرات الآلاف على يديه عندما كان مديراً لمدرسة كادقلي الثانوية في منتصف السبعينات وكنت قريباً منه في بلدنا لقاوة ايام العطلات كما كنت ازوره في داره العامرة حتى جامعة افريقيا العالمية فعرفت فيه الرجل الصالح الذي يسعى لكل خير ما استطاع اليه سبيله.. بل كان يدفع اولاده الى اعمال الخيرات.. لم يكن شيخ ونسي صخاباً، ولا عبوساً ولا فظاً.. كان رجلاً سمحاً سهلاً في التعامل، قوياً في الحق على بصيرة وحكمة.. فلم يكن يقدم الحق بقول فظ او موقف شاذ.. ولكن كان في الحق كالحرير في القوة، والنعومة في الملمس.. ومن شدة عجبي أنني خلال صلتي المستمرة والمتقطعة لم أره يوماً عابساً او غاضباً قط في وجه أحد من الناس.. وكان ثابتاً كالجبل في القضايا الكبرى، وكانت الابتسامة لا تفارقه ليقول الشيخ دفع الله حسب الرسول: جاورت الشيخ ونسي عشرين عاماً فلم أر منه ولا من أسرته إلا كل خير، كانوا حفاظون لحقوق الجيران وعوراتهم. ويقول صديقه وتلميذه الخبير الزراعي د. الطيب علي بابكر ان أهم مايميز شخصية مولانا ونسي محمد خير الارتياح النفسي الذي يعتريك لشخصيته فيجعلك تجلس معه ساعات وساعات فلا تملَّ الجلوس معه والاستماع اليه فتستفيد منه علماً وأدباً. وقد كان الفقيد حرباً على الفساد.. واذكر له في السبعينات أنه قام بحملة من على منابر المساجد على الرشوة وكان يتحدث حديثاً يهز القلوب ويأخذ برقاب الناس خوفاً وفزعاً ورهبة. وقد كانت الدعوة للاسلام والسمو الروحي والتوجه لله ونبذ الفرقة والارتفاع على الصغائر من هموم هذا الرجل الكبير الهمة وعندما كان في منطقة جبال النوبة خصص وقتاً كبيراً لذلك فكان يخرج الى القرى والجبال خارج مدينة كادقلي ملزماً نفسه ببرنامج اسبوعي كل نهاية اسبوع يبيت في القرى ويرشد ويعلم الناس الذين يتقاطرون اليه كما يقول د. الطيب علي بابكر الذي يضيف انه كان ما يميزه حديثه الجاذب حتى انه قل ان يخرج من المسجد احد اثناء حديث مولانا ونسي حمد خير يتطابق مع ذلك روحه المرحة في الحديث. وقد رحل الشيخ ونسي عن الدنيا بعد ان كفَّ بصره.. لكنه كان حاضر الذهن، عابداً تالياً للقرآن حتى آخر لحظة في حياته وتقول ابنته الاستاذة مريم عن عبادة والدها وهى من اكثر الملازمين له في ايامه الاخيرة: كان يقيم جل الليل والنهار في الصلاة والذكر وتلاوة القرآن، ولا يقطع ذلك إلا اذا دخل عليه زائر من زواره الكثر الذين يتدافعون اليه، وتواصل مريم بأن والدها ظل في ايامه الاخيرة يقول خطبة كاملة كأنه على منبر مسجد ومن ذلك انه قال خطبة كاملة عن غزوة بدر الكبرى يوم السابع عشر من رمضان الماضي فتحدث فيها وهو مستلق على فراشه- عن نصر الله للمؤمنين في هذه المعركة الفاصلة، وعن نزول الملائكة لجانب المسلمين، وانه دعا الناس الى محاربة الظلم، والتوجه لله حتى ينصرهم كما نصر أهد بدر. رحم الله الشيخ ونسي محمد خير فقد جاء الى الدنيا وهو يعلم يقيناً انه ضيف عابر فتركها ولم يترك وراءه فيما نعلم إلا ذكراه العطرة ومواقفه المشرفة.. فبرغم انه كان من الرعيل الاول من موظفي الخدمة المدنية التي كان لها شأن في السودان لم يمتلك لنفسه بيتاً او سيارة او ارصدة إلا بيت شعبي في حي الازهري بنى على عجل بعد ان ترك الوظيفة لبلوغه سن المعاش وحتى هذا فقد بناه له اولاده مجتمعين. ولئن لم يترك شيخ ونسي درهماً ولا ديناراً ولا اصولاً فقد فاز بسريرته البيضاء والعمل الطيب الذي يكفي له ربه، كما فاز بتلك الاجيال المتعاقبة التي نالت من علمه وتربيته وأدبه، وترك ذرية كريمة نحسب صلاحها وتقواها.. وترك داراً بسيطة في مبناها.. كبيرة وعالية في معناها.. ترك بيتاً مفتوحاً للغاشي والماشي.. عامراً بالضيوف وقد اوصى أبناءه بأن يظل هذا البيت مفتوحاً مشرعاً للضيوف والزوار. اللهم يا باسط اليدين بالرحمة والمغفرة ارحم عبدك ونسي محمد خير، اللهم انه قد جاء الى جوارك وانت اكرم الاكرمين فاكرم نزله.. اللهم انت اعلم به منا، واولى به منا فاكرمنَّ نزله، وأجير مصيبتنا في فقده.. وأجعل البركة في ذريته يا رحمن يا رحيم واجعل البركة في عقبه.. آمين.