في عام 1956م التقى الكاتب الاسلامي الراحل خالد محمد خالد، التقى بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر بمنزله بمنشية البكري بالقاهرة ودار بينهما حديث طويل ومناقشة حادة حيث طلب الكاتب خالد من الرئيس عبد الناصر ببسط الحريات وبعودة الديمقراطية للبلاد على ان تحكم مصر حكماً ديمقراطياً لا بالقبضة الحديدية، بل وأوضح لعبد الناصر نتائج القبضة الحديدية للسلطة كانت من نتائجها ما جرى عام 1954م من قمع للشعب واعدامات لبعض قادة الاخوان المسلمين وكان في مقدمتهم الاستاذ المحامي عبد القادر عودة والمحامي ابراهيم الطيب وغيرهم. وعندما احتدم النقاش بين عبد الناصر والاستاذ خالد همس احد اعضاء مجلس قيادة الثورة، همس في اذن عبد الناصر وقال له «يا ريس ديل ما تنفعش معهم المناقشة ديل عاوزين مشانق مش مناقشة» وخرج خالد من منزل عبد الناصر محبطا تماماً وفقد الامل في عودة الديمقراطية الى مصر وهو الذي قال عنها «الديمقراطية هي وعاء الاسلام» فأين إذن الديمقراطية في بلادنا الآن؟ لا وجود لها اطلاقا منذ 23 عاما والديمقراطية غائبة عن البلاد وصدقوني في ظل غياب الديمقراطية تفاقمت الازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ودخلت البلاد في العديد من هذه الازمات ودخلت سياسة استعراض العضلات السياسية والميدانية بل دخلت أشياء ومصطلحات ومفردات غريبة ودخيلة على دنيا السياسة من تهديد ووعيد بينما الاسرار الكاملة من كواليس هذه الازمات تظل غائبة عن الشعب السوداني، كما ان هذه المفردات الدخيلة على عالم السياسة اساساً لم يكن لها وجود حتى في إبان الانظمة الدكتاتورية التي تعاقبت على الحكم لم يكن لهذه المفردات وجود لكن في زمن نظام الانقاذ انتشرت كانتشار النار في الهشيم حتى وصفها احد الزملاء بأنها جهل فاق كل احتمال ففي ظل غياب الديمقراطية فقدت البلاد توازنها السياسي والاقتصادي واختل الميزان الاجتماعي بينما اصبح حال المجتمع السوداني تفككاً اسرياً واصيب المجتمع بشرخ اجتماعي غائر لا يمكن ان يندمل ابداً بعد ان اصبحت ظاهرة الفقر المدقع سمة دائمة لحقت او اصابت المجتمع السوداني في مقتل، بينما تراجعت خطوات المروءة والشهامة الى الوراء كثيرا وما عادت القبائل عندنا تحترم رجال العلم والمعرفة بعد ان فقدت الادارة الاهلية هيبتها وفقد «الناظر» هيبته ومقامه السامي بين القبائل. كل هذا سببه هو الانظمة العسكرية ففي عهد النظام المايوي العسكري هدم هذا النظام صرح الادارة الاهلية وعصف بها حتى كلمة «ناظر» داخل المدارس قام الدكتاتور بشطبها من خريطة المدارس فوضع بدلا منها «مدير» بدلا من ناظر وحتى السكة حديد الغى الدكتاتور كلمة «ناظر» المحطة نهائيا ،هكذا عبث النظام المايوي وقتها بالالقاب وطمس معالمها ومعانيها نكاية بالاحزاب السياسية حتى علم البلاد الاصلي «علم الاستقلال» استبدله الطاغية بعلم آخر ،فانظروا ها هم الثوار في ليبيا الثائرة أعادوا علم الاستقلال الليبي اعادوه الى موقعه وخاضوا به الثورة ضد الطاغية حتى دحروه ومزقوا علم الدكتاتور الذي جعله علماً للشقيقة ليبيا. ان المكايدة السياسية التي مارستها الانظمة العسكرية الدكتاتورية في بلادنا جرت البلاد الى المزيد من تفجر الأزمات السياسية وها هي البلاد تغرق في المزيد من بحر المشاكل بعد ان تفجر الموقف بالنيل الازرق، ففي ظل غياب الديمقراطية عن البلاد غابت الحكمة وحلت الفتنة واشتعلت النيران، في غياب الديمقراطية والتي هي صمام الامان فالديمقراطية الحقيقية معناها اشتراك الشعب بأجمعه في تقرير مصيره وفي حكم نفسه وفي تسيير شؤونه وليس استئثار فئة معينة فقط بالسيطرة على كل شيء في البلاد والانفراد بالسلطة بطريقة شمولية لا علاقة لها بالديمقراطية ولا علاقة لها بالشورى، فالذين ساروا ولازالوا يسيرون في ركاب النخبة الحاكمة انما يسيرون في ركاب مصالحهم الشخصية وطموحاتهم الشخصية والسياسية فالمصلحة جمعت بينهم وما كان ارتباطهم بالسلطة الحاكمة لشيء لمصلحة الوطن انما لشيء لمصالحهم والشيء المفجع حقاً اننا نشاهد الطبقة المثقفة من افراد المجتمع السوداني الاغلبية من هذه الشريحة تلاشت بل انصهرت في بوتقة نظام الانقاذ كانصهار الحديد في مصنع الحديد والصلب بمنطقة «حلوان» بالقاهرة، بينما الشعب ظل تائهاً في دروب المعاناة والغلاء الطاحن وكأنما لسان حاله يردد في اسى وحسرة شعب تائه في الدروب القاسيات يا نجمة سقطت ليلقفها الظلام من أين جئت وما مصيرك في الزحام؟.. بين النفوس العاريات من الألم انا منك يا وطن الجدود اصداء تنوح مع النجوم وتود لو عاشت على العربات تفترش الهموم ففي ظل تسلل ادعياء السياسة من كل اتجاه وفي زمن الغيبوبة السياسية يخرج علينا بعض اصحاب الاقلام ويخوضون في الحديث عن الازمات السياسية التي تتفجر هنا وهناك ويقومون بتحليل هذه الازمات على طريقة امساك العصا من النصف فهذا ليس بتحليل وانما هذا تهريج سياسي يؤدي الى وقوع البلاد في المزيد من دوامة المفاجآت على الصعيد السياسي. والامثلة على ازدهار تيار المفاجآت كثيرة في بلادنا فعلى حملة الاقلام ان تكون اقلامهم صادقة وأمينة وهي تخوض في بحر الازمات السياسية التي تعصف بالبلاد من وقت لآخر وعليهم ان يعترفوا بأن الخروج من قوقعة هذه الازمات هو باب واحد فقط باب الديمقراطية فهو المدخل الوحيد للخروج من نفق الازمات المظلم وكفى مغازلة للسلطة فبعض أصحاب الأقلام وفيهم اقطاب نشاهدهم يتسابقون الى موقع قريب من السلطة يلاطفونها تارة ويمدحونها تارة أخرى وصدق الفيلسوف «برنارد شو» حينما قال «ان الدعارة ليست أن تبيع امرأة جسدها وانما ان يبيع كاتب قلمه ايضا» فكم من اقلام قصفت بالهدايا والعطايا والهبات فدعونا من ذلك ومن تبادل الاتهامات والملاسنات الحادة ورحم الله ساسة ايام زمان من رواد الحركة الوطنية الذين كانوا يتمنطقون بالصراحة والجرأة بالاعتراف بالخطأ حتى ولو كان هذا الخطأ يقودهم الى عزلهم عن الوزارة ولأن الاعتراف بالخطأ كان من ثوابتهم الوطنية الرئيسية فلم يكونوا طلاب مناصب انما كانوا طلاباً لخدمة الوطن والشعب فأين ساسة هذا الزمان من ذاك الزمان الذهبي؟. ان العودة الى الديمقراطية تعني في المقام الأول العودة الى الجذور الى الوطن الأصل بل الى احضان الوطن الأم ،فالديمقراطية تعتبر الفريضة السياسية لكل الانظمة الديمقراطية وهي طوق النجاة للشعب السوداني وصمام الأمان والملاذ الآمن فعلاما يبقى البيت مهدوماً والنار تحت الرماد؟!