سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
شرط ازدهار الثقافة ان تكون لها مواردها الخاصة الأستاذ صديق المجتبى الأمين العام للمجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون في حوار الصراحة والوضوح مع «الصحافة» «1-2»
٭ الأستاذ صديق المجتبى، أمين المجلس القومي لرعاية الثقافة، من الكوادر الثقافية التي عملت ربع قرن في مجال الثقافة، وهو صاحب رؤية متقدمة في دور الثقافة وعلاقتها ببنية المجتمع والدولة.. هذا الحوار جاء من غير ميعاد، ويمثل بحلقتيه رؤية مثقف وشاعر، وكذلك يشغل منصباً رسمياً بصفته أميناً لمجلس الثقافة.. الى الحلقة الاولى. ٭ يتبع الثقافي السياسي، علماً بأن السياسي يقتات على الثقافي، ثم يلفظه، متى تنفك هذه الشراكة؟ - صيغة السؤال هذه تُدين الطرفين (المثقف والسياسي) ويفهم منه أن الثقافي مغفل نافع، والسياسي انتهازي ونفعي.. ولتصحيح هذا الوضع يمكن القول إن هناك أزمة بين مؤسستي الثقافة والسياسة والمثقف والسلطة.. وهى أزمة قديمة من لدن الصراع بين راعي القانون الإغريقي (اليوناني) وسقراط الذي أجبر على تجرع السم، وابن المقفع الذي ناصح أبا جعفر المنصور، ونهايته المؤسفة.. الإمام ابن حنبل والخليفة المأمون ونابليون والمثقفين.. والأمثلة كثيرة، وخلقت تراثاً وأدبيات تكرس مفهوم أن السياسي نقيض الثقافي. ٭ ولكن ألا ترى أن هذا التراث يؤكد أن السياسي نقيض الثقافي؟ - هذا في نظري غير صحيح.. فالسياسي يحتاج الى من يملك الرؤية والمعرفة، والثقافي يحتاج الى من يملك السلطة والقرار والإرادة السياسية، وزوال هذه الأزمة رهين بإعمال مؤسسات الديمقراطية والشورى، وأن يكون المثقف بمؤسساته شريكاً في السلطة، والإسلام يدعو لردم هذه الفجوة بين «العالم والسلطان»، أو أن تتحد المؤسسات في «العالم» ليصبح سلطاناً عالماً فقيهاً ورعاً. ٭ أيضاً.. دلت كل التجارب على فشل هذه العلاقة بين العالِم والسلطان، حتى إذا كان السلطان فقيهاً؟ - لا أعتقد ذلك لجملة أسباب، منها عدم النظر الى العلاقة هذه على أنها صراع بين قبيلتين، قبيلة المثقفين وقبيلة السياسيين، وهذا يؤدي لإضعاف الطرفين، أما اذا كان المثقف المقصود في سؤالك ذاك المثقف الديكوري الذي يزين واجهات السياسة بالثمن، فإن قولك صحيح، فهذا المثقف الديكوري انتهازي ونفعي، وكذلك السياسي الذي يستغله لهذا الغرض أيضاً مخاتل ونفعي يسعى لأن يكون المثقف والثقافة، خادماً في بلاطه، وفي هذا إهانة للمثقف والمثقفين. ٭ ما تعريف المثقف لديك؟ - كان ينبغي أن أُعرف المثقف قبل الاجابة على هذا السؤال، ولكن على العموم الشائع هذه الايام، أن كل منشغل في مجالات الفنون والابداع، وكذلك المتحذلقون وما أكثرهم، دون عطاء من الوزن الثقيل يعتبرون مثقفين.. وهؤلاء يكونون صيداً ثميناً وسهلاً للسياسيين، يستخدمونهم ديكوراً في المسرح السياسي، ويمكن نزع هذا الديكور بعد نهاية العرض. ٭ كيف السبيل لتصحيح هذه العلاقة المكتسبة بين المثقف والسياسي؟ - لتصحيح هذه الأوضاع، يجب عقد مؤتمر حول المثقف والسلطة، يكون الطرفان حاضرين فيه، ويكون الحوار شفافاً وعميقاً لإنهاء هذه الازمة ونزع فتيلها! ٭ أنت مثقف وتشغل منصباً رسمياً، المشاريع الثقافية تُكبلها دواوين الحكومة، ولماذا وزارات الثقافة المتعاقبة بلا شخصية.. أين يكمن الخلل؟ - الخلل يكمن في وضعية الثقافة في بلادنا وسائر بلاد العالم الثالث.. لماذا نحن في مؤخرة الركب تنموياً وثقافياً.. ذلك لأن مشروعنا الحضاري على مرَّ القرون فقد سلطانه الثقافي، فالأمم لا تزدهر بالمشاريع الاقتصادية دون عنصر الثقافة، والثقافة عنصر مهم لاستدامة التنمية وإضفاء الهوية المعرفية والحضارية عليها. ٭ اذا تجاوزنا وضعية الثقافة التي بلا شك عامل مهم في تطور البلاد، لماذا تفشل مشاريعنا الثقافية حتى بعد وضعها على خارطة التنفيذ؟ - بعد الاستقلال وفي أول حكومة وطنية الى خمس حكومات تلتها، لم تفكر الاحزاب التي اقتسمت الثروة والسلطة في وضع مشروع ثقافي يساعد على حكم السودان، ولذلك غابت حقيقة وزارة الثقافة، اضف الى هذا تاريخاً طويلاً من التعديلات الوزارية، إذ تعاقب على هذه الوزارة أكثر من خمسين وزيراً، منهم من جاءت به المحاصصات بين الحزبين الكبيرين، ومنهم من جاءت به الجهوية والقبلية، وقليل جاءت به مؤهلاتهم الثقافية أو علاقاتهم مع الوسط، والشاهد في الأمر أنه لم تكن هناك مؤسسة ثقافية مستقرة.. فهى بين الإلغاء مرة والدمج في وزارات أخرى، أو تصبح مجرد قسم في وزارة كبيرة دون اعتبار لأى مشروع ثقافي يحدد ملامح المؤسسة الثقافية وهيكلها وعلاقاتها الاتحادية والولائية. ٭ كنت وزير دولة للثقافة والسياحة، والآن أنت أمين للمجلس الثقافي، ماذا قدمتم من أجل خلق هذه المؤسسة المفقودة والمهمة جداً لنهضة السودان؟ - مهمة المؤسسة الثقافية، من اولوياتها إحداث نقلة نوعية للمجتمع نحو مستقبل افضل، وإدارة التنوع الثقافي مثلاً، حتى ينعكس ذلك على جملة المشروع الثقافي، ولكن عدم الاستقرار، ساهم في زعزعة المشروع الثقافي، وادى كذلك الى ضياع الملفات في الوزارات التي دمجت فيها الوزارة أو ضمت اليها، فأصيبت بفقدان الذاكرة.. وأستطيع الآن أن أحصي اكثر من عشرين مشروعاً ثقافياً صممناها وتركناها في أضابير الوزارة.. أين هى الآن وماذا فعل بها الوزراء المتعاقبون؟ وهناك أزمات أخرى مثل التمويل وعدم وجود كوادر مؤهلة، وعدم مراعاة المهنية في استقدام الكوادر للعمل في الثقافة، فهى مهنة من لا مهنة له، رغم أن العالم اتجه أخيراً لما يسمى بعلم الثقافة.. فهى علم الآن. ٭ ولكن ماذا عن مهمة الدولة وهى لا تراعي متابعة أو تنفيذ هذه المشاريع، إذ من الواضح أن كل وزارة تأتي تمحو آثار الوزارة السابقة، إضافة لمشكلة دمج وفصل وزارة الثقافة؟ - لا نعفي المسؤولين عن هيكلة الدولة عقب كل تعديل وزاري جديد، فما هى المعايير التي تتم بها هذه الهيكلة إن لم يكن الغرض الرئيسي منها توفير حقائب وزارية لاستيعاب القادمين الى حظيرة السلطة.. مثلاً ما هو المعيار الذي جعلت به الآثار جزءاً من وزارة السياحة، رغم أن الآثار والتراث القومي من صميم وظائف الثقافة.. والسياحة صناعة لعرض وترويج هذه الآثار ولكن لا علاقة لها بالبحث والتنقيب والكشف.. هذا عمل أكاديمي وثقافي. ٭ ماذا عن ذاكرتنا الثقافية على ضوء ما ذكرت من ضياع للمشاريع الثقافية؟ - وأنا بدوري اتساءل أين ذهبت إدارة الانتاج السينمائي وأربعة آلاف فيلم، أين مؤسسة الدولة للسينما، أين مركز إنتاج الأفلام والرقابة على الفيلم، أين قانون (47) للمؤسسة العامة للسينما؟ ومن الذي ألغاه بقانون، أين المؤسسة العامة للطباعة والنشر والتوزيع ومن الذي ألغى قانونها.. أين المكتبة المركزية وماذا فُعِلَ بها.. وكثير من المؤسسات تساقطت في الطريق وتساقطت مشروعاتها وذهبت في طي النسيان.. ونسأل أيضاً عن المراكز الثقافية وإداراتها.. والكثير والكثير. ٭ ما ذكرته يعني أن السؤال عن المشروعات يجب أن يسبقه سؤال عن المؤسسات التي تمثل الذاكرة والمنفذ لهذه المشاريع الثقافية؟ - نعم السؤال عن المشروعات ينبغي أن يسبقه سؤال عن المؤسسات التي اقيمت من أجل هذه المشروعات والقوانين التي صدرت بها.. وعلينا أن نتدارك الامر. ٭ لكن ما دوركم أنتم القياديون؟ - أنا لم أكن يوماً عضواً في أى من اللجان التي تصنع هذه الهياكل وتصوغ المراسيم الدستورية التي تصدر بموجبها الوزارات.. لا ادعي علماً ولكن كان من الضروري الاستفادة من خبرتنا المتواضعة في هذا المجال. ولا أود أن يفهم من ذلك أنني استجدي أحداً، ولكن إن لم أكن فغيري الكثيرون ممن هم أعلم مني في هذا المجال يمكن الاستفادة من خبراتهم. ٭ إذن هناك أزمة ثقافية مكتملة الأركان؟ - ألخص لك الأمر في أن هناك أزمة مفاهيم وأزمة مؤسسات وأزمة تخطيط وأزمة مهنية علمية وعملية، وعدم اهتمام بالدور الوظيفي للثقافة وأهميتها في تحقيق التنمية والتغيير المنشود، وكنا دائماً نقول إن التنوير يسبق التغيير (التنوير قبل التغيير). ٭ ما هى رؤيتكم أو مقترحاتكم للخروج من هذه الدائرة المغلقة، وكذلك ماذا قدمتم عندما كنتم وزير دولة للثقافة؟ - قدمنا أكثر من عشرين مشروعاً أساسياً في خطتنا لوزارة الثقافة، جاءت تحت الابواب الآتية: مراجعة التشريعات الثقافية واقتراح قوانين جديدة أهمها قانون مجمع الموسيقى، قانون المركز الوطني للفنون، قانون المراكز الثقافية، قانون صندوق التنمية الثقافية، ومشاريع لتعديل قوانين أخرى مثل قانون تنظيم النشاط الاهلي لعام 6991م، وكذلك مشاريع البنيات التحتية، ومشاريع مراجعة الهياكل الوظيفية والإدارية، ومشروع الاستراتيجية الثقافية القومية وفقاً للمعيارية الدولية، ومشروع الموسوعة الثقافية، والمشروع القومي للترجمة والتأليف والنشر، ولا يتسع المجال لذكرها. ٭ في رأيك ما هو أهم هذه المشاريع الثقافية التي لم تنفذ؟ - بلا شك أهم هذه المشروعات، مشروع صندوق التنمية الثقافية، وقد اقترحنا في عام 4991م قيام بنك للتنمية الثقافية، ثم اختزلنا المشروع ليصبح مشروع صندوق التنمية الثقافية ليكون نظيراً للكثير من الصناديق العربية والعلمية العاملة في مجال تمويل الثقافة وصناعتها، وكذلك فكرة «الوقف الثقافي» باعتباره إحدى قنوات التمويل الثقافي.. ونريد مشروعاً ثقافياً تقوم عليه الوزارة، ولا نريد مشروع وزارة بلا مشروع ثقافي، ولا نريد وزارة علاقات عامة تعني بالرعاية الاجتماعية، ولكن ننادي بقيام مؤسسة ثقافية تكرِّس مفهوم الانتاج الثقافي، وأن تكون المنافسة على التمويل عبر الإنتاج، وأن يصبح المبدعون أغنياء بإنتاجهم، ويحزنني كثيراً أن قامات سامقة من المبدعين والعلماء والمثقفين، يطحنها الفقر ويسحق كل معنى رفيع فيها.. فهؤلاء يمكن أن يصبحوا أغنياء بإنتاجهم. ٭ كيف السبيل إلى ذلك؟ - بتشجيع الاستثمار الثقافي والاعتناء بالقطاع الاقتصادي الثقافي وتشجيع رجال الأعمال الذين يعملون في هذا القطاع رغم المخاطر الاقتصادية، فهؤلاء مهمون لتحقيق التنمية، وهناك أكثر من «401» مطابع أُغلقت وخرجت من السوق، وكثير من العاملين في مجال الصناعات الثقافية كذلك خرجوا بفعل المنافسة من قبل المنتجات الأجنبية المستوردة، وهذه قضية خطيرة بأن نستورد المنتج الثقافي كما نستورد المعلبات الغذائية. وحماية المنتج الثقافي الوطني هو أحد أهم التدابير لحماية الهوية الثقافية.