من التقاليد الثابتة والمرعية فى امريكا والغرب عموما أنهم يحتفلون ويملأون الدنيا ضجيجا عند تنصيب الرئيس بعد فوزه ونيله ثقة الشعب على ضوء البرنامج الذى خاض به المنافسة.. ففى امريكا يكون هذا الاحتفال كبيرا والاعداد له يستغرق حوالى خمسة وسبعين يوما- من 4 نوفمبر الى 20 يناير من العام التالى. وهو يوم تنصيب الرئيس المنتخب ليتولى زمام الامور وانتقاله للبيت الابيض .. ليدير منه امريكا والكون «لأن أمريكا لديها الرغبة والقدرة للقيام بهذا الدور كما وصفها بطرس غالى الأمين العام للامم المتحدة السباق حين سئل لماذا امريكا هى القطب الاوحد». و تعتبر هذه الفترة مرحلة التقييم والتحليل ووضع الساسيات للاربعة اعوام التالية مصحوبا، باختيار المجموعة التي ستقود امريكا للاربع سنوات القادمة. وبعد ذلك ليست هناك احتفالات وضجيج فى المناسبات الاخرى.. لا مرور عام ولا غيره. وشغل الاعلام العربى على كل المستويات بمناسبة مرور عام على تولى اوباما الرئاسة الامريكية حسب ثقافتهم الاحتفالية بالرؤساء والملوك، فكل حركة وسكون للزعيم الخالد والقائد الملهم والرئيس القائد والملك «المعظم» تستحق، بل يجب أن توثق بالمراسيم الاحتفالية المتنوعة والباهظة التكلفة وغالبا ما تكون هذه البدع من «ابتكارات البطانة» لاسبا ب متنوعة ايضا .. يعنى نفع واستنفع....وكده.. وكذلك فإن ثقافة الإخوة العرب والعالم الثالث عموما ان الرئيس او الملك اذا قال لا بد أن يحول القول الى فعل و«بسرعة»، أما اذا أمر فلا بد من الهرولة لانزال القرار إلى الارض، فهو بلا شك قرار هام ومصيرى .. هناك فى الغرب وفى امريكا بالذات فئة واحدة فقط هى التي تؤخذ توجيهاتها وايماءاتها مأخذ الجد، ثم السعى الى انزالها على ارض الواقع وتحويلها الى فعل، وهى فئة العلماء- فى كل فروع العلم. أعرف أستاذا فى الجامعة الزراعية فى واخننجن- هولندا «واحدة من احسن خمس جامعات فى الزراعة فى العالم» منذ فترة طويلة.. حيث التقيت به فى إحدى قاعات المحاضرات وكان فى اواخر السبعينيات من عمره، وحين وصل اواخر الثمانينيات رأى أن يترك البحث والجامعة .. قالت الجامعة لا..لا..لا مش ممكن ولا يعقل ولا نسمح ونفذت كل شروطه واختصر عمله فى أن يأتي للمكتب بعد الظهر وألحقت به عرفة نوم «اذا اراد ان يرتاح قليلا» ثم يدخل عليه شباب الاساتذة وطلاب الدراسات العليا وتطرح المقترحات والاستفسارات ليجيب بنعم ام لا، وفى اغلب الاحيان بإيماءة من رأسه بما يفيد «تمام، أو لسع عايز شغل» اما النقطة الاخرى التي يصعب علينا فى المنطقة العربية استيعابها ومن ثم التعامل معها هى ان أمريكا دولة مؤسسات ولا يمكن لرئيس مهما كانت شعبيته الخروج من إطارها، وبالتالى فإن تبنى فكرة او موقف- سياسى او اقتصادى- يحتاج الى سلسلة من الاجراءات، ولا نود ان نسترسل ونسهب فى هذا الامر، ولكن وباختصار هناك البيت الابيض «المطبخ» ثم الكونغرس بشعبتيه، أما السيد الرئيس هناك فيستطيع أن يعطل قرار مجلس الشيوخ «بالفيو الرئاسى» وكذلك يستطيع مجلس الشيوخ فعل الشىء نفسه بإجراءات محددة دقيقة حسب الدستور.. ومن هنا نستطيع ان نستخلص وبايجاز بأن اوباما أو اى رئيس امريكى لا يستطيع ان يتخذ القرار سواء فى السياسة الخارجية او الشؤون الداخلية بالسهولة والصلاحيات التي يتمتع بها رؤساء وملوك العالم الثالث «وحتى الملكية فى الغرب هى مسألة رمزية فقط ولا تتدخل فى ادارة الدولة»... ولم تتقدم الامور فى الشرق الاوسط كما كان يتمنى اوباما على ضوء مؤشرات خطاب القاهرة واستنبول، ثم بدأ الهجوم على أوباما «من ناس هنا» بأقوال مثل أوباما لم يفعل شيئا .. أصبح أسيرا لليهود. وطالما «جبنا» سيرة اليهود نود أن نذكّر بأن هناك اكثر من خمسة ملايين مواطن امريكى يهود بما فيهم عدد كبير فى الكونغرس وهناك «11»عضوا منهم فى مجلس الشيوخ ينادون بحل القضية الفلسطينية- الاسرائيلية بطريقة عادلة وتسوية تحقق للفلسطينيين بعض حقوقهم وقيام دولتهم التي يناضلون من أجلها منذ الشهداء الامير فيصل وعز الدين القسَّام والحسينى، مرورا بكل الشهداء حتى ياسر عرفات .. منذ عهد الدولة العثمانية وصراعها مع الانجليز الذى ساهم بشكل كبير فى واقع اليوم هناك بل فى كل المنطقة العربية.. والحقيقة التي يجب ان نستوعبها «بآلامها» والتفكير أيضا «بآلامه ومراراته» أن خمسة ملايين مواطن امريكي يهودى لهم الدور الايجابى المؤثر فى السياسة والحياة الامريكية بعكس الستة ملايين عربى ومسلم «بدون اي دور» لانهم ذهبوا الى هناك بنفس العقليات «لا يتفقون حتى على بناء مسجد أو اختيار عمدة المدينة «معليش أصلو همّ مش متعودين على الشكليات دى!!!!» وحتى للأسف هناك فى واشنطن العاصمة مسجدان متجاوران وكل منهما يصلى الجمعة فى وقت مختلف وبفارق اكثر من ساعة بينهما. والاسباب معروفة دون ذكرها.. وبالمناسبة أكثر من تحدث- إشارة أو إيماءً أو «كلام عديل كده» ان اوباما أسود ومن سلالة الرقيق الى آخر هذه الاراجيف التي تحملها العقلية والثقافة العربية منذ عهد ما قبل الرسالات السماوية.. حتى الاستاذ هيكل كان يقول بأنه لا يرى احتمالا لفوز اوباما، لان الشعب الامريكى لا يمكن ان يصوت لرئيس من اصول زنجية- قبل 4 نوفمبر 2008م. ولكن كان للشعب الامريكى رأي آخر «حيث سطر الامريكى فى دفتر التاريخ بأن الانسان بما يحمل من رؤى وأفكار وليس بلون جلده». وبعد فوز اوباما المفاجئ للعرب قال هيكل فى يوم 5 نوفمبر ان فوز اوباما لم يكن ممكنا فى الظروف الطبيعية، واعتبر فوزه حدثاً استثنائياً !!! وتحدث على لسان الزنوج بأنهم يعتقدون ان اوباما بفوزه سيجهض قضيتهم، ويرى الاستاذ بأن امريكا بما فيها السود «اللفظ الذى استخدمه» غير مهيأة ليتولى شؤونها رجل أسود، واعتبره رجلا بلا تجربة وحاجات اخرى كثيرة سجلناها عبر هذه الصحيفة غداة فوز الاسود، وقد كان الاستاذ يرى ان الشعب الامريكى لا يمكن ان يصوت لرئيس من اصول زنجية. بالمناسبة هل نحتاج ان نذكر العرب والمسلمين بسيدنا بلال الحبشى وسلمان الفارسى وصهيب الرومى وهم «منا» كما قال معلم البشرية والسياسى الاول والادارى القدوة عليه أفضل الصلوات والتسليمات.. وللأسف المنطقة الوحيدة فى العالم التي مازالت تتعامل بمفردات اقل ما يمكن ان نصفها به انها تتعارض مع كل القيم السماوية والاعراف والدساتير الوضعية، وسلمان من آل البيت هى الرسالة التي يجب ان يستوعبها الكل خاصة اهل الرسالات السماوية وعلى رأسها الرسالة الخاتمة...انها جاءت للبشرية كافة وعبرها كرم المولى عزّ وجلّ الانسان من حيث انه هو انسان.... ولقد كرمنا بنى آدم.. درس استوعبته كل دساتير العالم المتحضر واوضحها «نظريا وتطبيقا» الدستور الامريكى الذى أتى ب «الاسود» مخيبا ظنون وآمال أصحاب نظرية مواصفات الرئيس الامريكى «ابيض، انجلوساكسون، بروتستانت (WASP) التي كان وللاسف يروج لها بعض مثقفى وقادة الثقافة والفكر العربى... المهم الجماعة هنا تعاملوا مع أوباما قبل وبعد الانتخابات بهذه العقلية التي للاسف ايضا مازالت تسيطر على رؤيتهم للامور، وكان رأينا نحن الهواة فى ميدان السياسة «دخل أوباما البيت الابيض أم لم يدخله، فقد انتصرت فكرة الامة واحترام الدستور الامريكى لمبادئه.. أوباما: من انتصار فكرة الأمة الى تنزيلها على ارض الواقع.. أوباما على ابواب البيت الابيض كأول رئيس امريكى اسود...الخ». وأرجو ألا يحمل القارئ الكريم هذه المداخلة «العرب وأوباما» اكثر من انى لا ارمى للتعميم، فالعرب ايضا هم الذين يقولون «ليس الفتى من يقول كان أبى إن الفتى من يقول هأنذا». أن أوباما رئيس الولاياتالمتحدة واختاره الشعب الامريكى ليدير شؤونه، أو بمعنى آخر السياسة الداخلية هى البوصلة التي يحدد بها الشعب هناك الانجازات و«الاخفاقات» حتى «حكاية» القاعدة والعراق وافغانستان وايران يراها الانسان العادى هناك من من منطلق لماذا يذهب ابنى ليموت هناك؟ ولماذا نصرف المليارات فى حروب خارج الحدود الامريكية، وهذه موجودة فى التفكير الامريكى منذ ايام روزفلت وترومان وقبلهم وبعدهم أصحاب نظرية «العزلة الممتازة الآمنة SPLENDID ISOLATION .. لقد كان اوباما فى خطابه يوم الجمعة الماضى واضحا فى هذا الامر، حين خاطب شعبه فى خطاب حالة الامة بتركيز غير عادى على الشأن الداخلى، ولم يشمل الخطاب الا القليل فى السياسة الخارجية «وفقط كان عن ايران وافغانستان التي تتداخل وتتقاطع مع الشأن الدخلى».. فالمواطن الامريكى يريد ان يرى ماذا يفعل اوباما مثلا فى الازمة المالية التي بدأت قبل مجيئه مع عجز مالي بمقدار ثلاثة تريليونات دولار، تركته له الادارة السابقة.. الامريكان يهمهم برنامج العناية الصحية الذى وصل بمقترحه فى التأمين الصحى القومى مرحلته الاخيرة.. لقد انزعج الديمقراطيون- الحزب الذى رشحه وسعى لفوزه- بخسارتهم لسناتور جمهورى فى ولاية ماسستتيوس التي تعتبر من معاقلهم ولم يفز فيها جمهورى منذ 30 عاما، الأمر الذى سوف يؤثر سلبا على فرص فوز برنامج الرعاية الصحية الذى سيعرض على مجلس الشيوخ قريبا، ولا شك فى ان الاصل فى السياسة الخارجية هو خدمة السياسة الداخلية، كما ينسب للأستاذ أحمد خير انه كان يقول حين كان وزيراً للخارجية «السفارات يجب أن تكون «دكاكينا» لخدمة سياستنا الاقتصادية والتجارية فى الخارج».. ثم على العرب أن يفكروا في أن اوباما يختلف عن سابقيه بأنه سياسى مفكر وليس سياسيا تنفيذيا فقط كما يقال عنه فى الدوائر الاعلامية، وهذا يعنى ان له رسالة ورؤية لمستقبل امريكا والعالم، يعنى «قاعد لو فوق رأى» كما يقول اهلنا الشايقية.. ومثال أنه يرى أن على الافارقة تنمية وتطوير القارة بأنفسهم بدلا من الاعتماد على المعونات، وهذا لا يتأتى الا بتبنى نظام الحكم الراشد الذى لا يتحقق الا فى ظل نظام الحكم الديمقراطى».. واعترف العالم باوباما كشخص من هذا الطراز، بدليل أنه نال جائزة نوبل للسلام- ليس للانجازات كما جرت العادة ولكن للرسالة والرؤية التي يطرحها.. كما أنه اعترف بشجاعة «الواثق». بأن توقعاته في ما يتعلق بالصراع العربى الاسرائيلى كانت اعلى سقفا من أن يتحملها الواقع.. ثم تعالوا يا جماعة ماذا فعل العرب وقبلهم الفلسطينيون لحل مشاكلهم حتى نلوم غيرنا؟.. هل تحرك الفلسطينيون خطوة فى اتجاه السلام؟ او لم يظل اتفاق القاهرة بين جناح الضفة وغزة محلك سر؟ وأقولها بأعلى صوت انى لا أرى أملاً للسلام فى الافق ما لم يجلس الإخوة الفلسطينيون مع بعضهم ويعترفوا بأن اختلاف الرأى لا يفسد للود قضية، والذى يفسد ويخرب قضيتهم هو التناحر والتشاكس وو ضع العربة أمام الحصان. فلتجلس الضفة وغزة من أجل قيام دولتهم، وبعد ذلك فليكن التنافس بين البرامج، وليحكم الشعب الحر الذى يعيش على أرضه وليس تحت الاحتلال، على من يتولى امرهم. أما هنا فى السودان فإن الرجل يسعى بكل الجهد الممكن.. مثلا اختار قرايشن مبعوثاً خاصاً للسودان فى خطوة غير مسبوقة «المبعوث الخاص الوحيد فى أفريقيا» وقرايشن كما قلنا فى مناسبات سابقة ليس من الصقور هناك، ولم يكن مع فرض العقوبات على السودان، بعكس مسز رايس «الاممالمتحدة» مثلا. والرجل صامد رغم ما يتعرض له من ضغوط هناك، وامريكا تقول انها ستتعامل مع نتائج الانتخابات، وترى أن همها الاول الآن ان تكون الانتخابات نزيهة- وهذا ما يعمل له الجميع فى السودان- واذا سارت الأمور هكذا وافرزت دولة فى الجنوب فهناك وعد منها بالدعم. وهو نفس الوعد الذى قطعه السيد الرئيس على نفسه. ونختم مع الشاعر احمد مطر ونقول على لسانه: لجميع الاعراب شعوبا وحكاما قرع طناجركم فى بابى أرهقنى واطار صوابى لست أباكم حتى ارجى لا كون عليكم قواما وعروبتكم لم تخترنى انا امثولة شعب يأبى أن يحكمه احد غصبا ونظام يحترم الشعب .. وانا لهما لا لغيرهما همسة للفت الانتباه: فى الفترة القادمة التي قد تطول سوف تتحول اوليات مجموعات الضغط ومن خلالها امريكا واوباما، الى ايران وتقاطعاتها مع دول الخليج. وقد تجمد المساعي فى قضية العرب الاولى، وهذا يصب فى مصلحة الطرف الآخر.. ويللا فكرو او قدروا.. والسلام بدءاً وختماً.