(1) الوقت يضع حداً فاصلاً، والنور يشع من عينيها عطفاً على كل أنوار الكون، صوتها؛ دافيء أطرته أنوثتها الناضجة.. بدت مستغرقة في ذاتها.. أدركت ببساطة ساعتها وهي تتأمل رحيله للأبد: بأن التاريخ لا يرحم! (الله) فقط من يرحم. قضت معه ليلة واحدة فقط، تعرف؛ أن لا جرح يمكن أن يوازيه، ( الموت تُسميه جرح)! خلقه الله لها ليومٍ واحد، هكذا أقرّت، وحددت وعاشت! منذ عرفته كانت ترى ليلة واحدة، رجلاً شاباً بالزي الأبيض يترجل، يغوص في عالم الغيب، لا يعود! ساعتان ونصف الساعة لا غير- مدة حياتها معه ( مائة وخمسون دقيقة) وحلق في الأعالي.. لم تتردد: هو في الفردوس الأعلى، في الجنة ترى ذلك.! هي الآن تمتطي رحلة الحياة بلا جواد وبلا زاد، أيقونتها تكسرت وإكسيرها جف. تساءلت مرات عددا عن هكذا حكمة وهكذا مصير؟!! تعلم أنه قد أُختير لسبب ما، رسالته كانت في حدود الثلاثين، من يكمل رسالته؟ أتُراه سابحاً في أية عوالم.. أيعلم أنني لم أغادر محطته.. أيدري في غيبِه أنني فنيت ولم أعد ذات وجود؟؟؟ أيعلمُ شيئا؟ (2) بدا هذا اليوم في ذهنه يُماثل تلك الثواني الشّاردة من رحم التاريخ، تلك التي ضاعت على البشر، ولم يجدوا فيها زمنا. ما أدراه بما يدري؟ ومَن يدري بما يدري؟ يدري إنه من طينة على عجل، ومن صلصال الحمأ المسنون، من آدم الأول، ومن أضلعه خرجت ذات دخول. يعلم تماهيها المكتوب في قدر الأرض؛ بأن تأوب إليه روحاً في غدٍ وأن تغشاه موجٌ من فوقه موج في بحر روحه، وتحط بقلبه شاطئاًً أبدياً على ضَفة التأريخ المسطور! الغمام يومها غطى السماء، والثرى ابتلّ حدّ الرواء.. الحياةُ خريفٌ والخصبُ كذلك، والمدنُ في الأصلِ أُناسٌ زاحفون وقوانين بلا هوادة، تؤمن بأي شيء وتسعى لأيِه. قادته قدماه الإثنتان إلى بداية اللا نهاية.. الوطنُ في تلك الأيام، كان مكاناً لافتاً وعبقرية محددة تنبع من النهر! كان نهراً- عذبٌ ماؤه يسقي الحنايا، طهور العشق، الآدمي، سراباتٌ كثيفة التمعت في مسافات الشوارع البعيدة، المسفلتة أحياناً، آراءٌ كثيرة تبنت السفر كخلاصٍ مؤبدٍ للروح وساقٍ دائم للحياة. ناداه الصوتُ الذي طرق أُذنيه وفجّر بهما طاقة السمع، ناداه: أن يا (علي)، قُم مِن مقامك هذا، إذهب إلى داخلك، واتني بها. ذات مساء (عاصمي) خرطومي خريفي معتق، إنسربت رائحة المطر ندية طينية مضمخة بعطر (الجالوص) ذا (الفسيفساء) السودانية المعمارية. رذاذٌ أخاذ أخذ يهبط من سماوات الخرطوم يُهدي شعبها البين (مديني وريفي) نسائماً يفتقدونها طوال العام، اهتاجت ذكرياته مع المطر والطين الآدمي؛ لأجل كل دقيقة أمضاها في الأرض، ارتفع حثيثاً حثيثاً نحو علو روحه، بيارقها الخفاقة، أناشيدها الملتاعة، صولاتها الآفاقية، قافلتها الجائبة وطن الخلد والديمومة.