٭ ظل اسم الدكتور زكي مبارك يتردد، محفوفاً بهواجس شتى، فالرجل دخل في صراعات مع كبار أدباء مصر وكتابها: العقاد، طه حسين، أحمد امين الخ.. وجرت محاولات كثيرة لاقصائه من الذاكرة الثقافية لمصر والوطن العربي.. ولكن لأن الامر في نهاياته موكول لاقدار لا يد لاعدائه فيها، فقد نهض لانصافه عدد من الكتاب منهم بنته كريمة زكي مبارك، أنور الجندي، محمد محمود رضوان، فتحي رضوان الخ. يقول فتحي رضوان: «ولم أكن في حاجة لأعرف سر ظاهرة زكي مبارك، فزكي مبارك ممن نأوا بأنفسهم عن السلطة، وممن حرصوا على خصائص المصري الازهري الريفي الفقير». ثم يقول فتحي رضوان: «ونعجب كيف أفلت صاحب قلم كزكي مبارك من تلك الاحزاب التي كانت تجزل العطاء لمن يروج لمذهبها ويحارب بسيفها، ولو فعل زكي مبارك كما فعل زملاؤه وانداده من أهل عصره لتغير الامر معه تماماً، فاسمه كان سيزداد ذيوعاً ورزقه كان سيزداد اتساعاً، ومقامه من صاحب السلطة كان سيزداد ارتفاعاً». ثم يقول: «ولكن المرائين والمدارين والمتاجرين بالاقلام والمروجين للاوهام والمتخذين أعداء الوطن، نجحوا في جعل أخريات أيامه صاباً وعلقماً، حتى أطبقت عليه غربته بين أهله، ووحشته في وطنه، وهذا شرف يزينه، وإكليل غار يتألق فوق مفرقة حينما يروي التاريخ الصحيح بعد أن يسقط البهرج الزائف ويختفي الضلال المتأله. ٭ ورد هذا في كتاب «أفكار الكبار» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 8791م، ونقلت عنه هذه الاقوال كريمة زكي مبارك في كتاب «رسالة الأديب» بقلم الدكتور زكي مبارك من اعداد وتقديم كريمة زكي مبارك، واشرفت على طبعه ووضعت فهارسه رباب عدنان درويش، ونشرته وزارة الثقافة السورية 9991م ضمن سلسلة إحياء التراث العربي «801»، ويقع الكتاب في «614» صفحة 42 سم. وتحت عنوان «نفحة سودانية» «مجلة الرسالة العدد 284 بتاريخ 82/9/2491» وأعيد نشرها في رسالة الاديب «دمشق 9991م»، يقول زكي مبارك: «كان من توفيق الله ان نلتفت الى الادب في السودان بعض الالتفات، فبه اتيحت لنا فرصة للتعرف الى ما هنالك من روائع لو نشرت لبهرت شعراء مصر والشام والعراق. أقول هذا وأمامي قصيدة للشاعر محمد سعيد العباسي، قصيدة خفيفة الروح، حن فيها الى ايامه بمصر فقال: ولو كان لي علم ما في غدٍ لما بعت مصر بسودانيه عدتني من طيب ذاك الثواء نوىً قذف خيلها عاديه فودعتها أمس لا عن قلى ولم تكن النفس بالساليه الى بلدٍ عشت فيه غريباً بعيداً عن الناس في ضاحيه أقيم بها من صدور المطي للمرخ تحدى وللصافية الخ.. والمرخ والصافية ماءان لبادية الكبابيش في السودان. وبعد أن نشر القصيدة سأل زكي مبارك القراء: فما رأى قراء الرسالة في هذا الكلام النفيس؟ ما رأيهم في شاعر سوداني يحن الى مصر هذا الحنين؟ وما جزاؤه على هذا التلطف النبيل؟ نحن لا نملك الجزاء على مثل هذا الوداد، فهو فوق الجزاء، ويكفي أن نقول انه شاعر من السودان، السودان المصري أعزه الله، ورعاه وحماه من جميع الاسواء.. وكلمة السودان المصري كانت كلمة شائعة على ألسن المصريين، وكان اسم السودان مقترناً في عهد الحكم الثنائي بمصر وانجلترا «السودان المصري الانجليزي فتأمل!». وداد مصر للسودان وداد صحيح، فليعرف السودانيون اننا لا نقبل ان يكونوا أوفى منا بأى حال، وسنعارض هذه القصيدة بقصائد وسنريهم ان مصر تجزيهم صدقاً بصدق وإخلاصاً بإخلاص. أيها الأرواح الشوارد بأعالي النيل، أيها الحافظون لأمجاد الاسلام بالوادي السحيق، هل تعرفون مكانتكم في أنفس المصريين». وفي الفصل العاشر من كتاب «رسالة الاديب»، وعنوانه من اقول زكي مبارك، يقول الدكتور زكي: «إن أهل السودان من عيون العروبة.. وفيهم شمائل من النبل والكرم والذوق. سأذهب الى قومي في السودان.. سأذهب الى البلاد التي فيها منابع النيل، سأذهب الى الخرطوم التي خلدها صاحب ليالي سطيح الخرطوم التي تنسم هواءها حافظ ابراهيم اظرف رجل رأته عيناى، سأذهب الى الخرطوم التي عزَّ عليها أن اقصر هواى على القاهرة وباريس وبغداد. سأزور الاماجد من أهل السودان الذين كانوا ولا يزالون اصدق الحافظين لعهد القرآن. سأبني بيتاً في دارفور لاستطيع ان أقول: انني وفيت بالعهد للعروبة المصرية، وسأكتوي بقيظ السودان كما اكتويت بقيظ العراق». وفي 13/5/3491 كتب زكي مبارك: «كان من المنتظر ان يتأذى قوم من الكلمة التي كتبت عن أسيوط وكان قد ذكر «أن الجلال السيوطي وهو أشهر من مجد اسم اسيوط في العهد الاسلامي لم يتخذ هذه المدينة دار مقام في الحياة ولا بعد الممات، فهل كان يعرف زهدها في المجد العلمي والادبي؟ ومن غريب ما لاحظت أن أسيوط أقل الحواضر المصرية مسايرة للحياة الادبية، ولولا الرعاية لحق هذه المدينة لقلت انها لا تعرف من مطبوعات القاهرة بعض ما تعرف دمشق أو بيروت او بغداد. «في أسيوط وحدها يمر يوم وأيام بلا مدد من الجرائد والمجلات، فكيف يقع ذلك ومدينة أسيوط هى الثالثة أو الرابعة بين كبريات المدائن المصرية؟ عزيزي علىَّ أن أقول في أسيوط كلاماً كالذي قلت، ولكن ماذا اصنع وانا موقن اهتماماً بالادب من حواضر السودان، وبيننا وبينه ابعاد طوال؟» وتحدث في مقالته والحديث ذو شجون، عن هجران الاستاذ نجيب الهلالي لمدينة اسيوط ولداره- وقال زكي مبارك: الديار تتأذى بالهجر كما يتأذى الأحباب، وليس في الوجود كائن بلا روح، ولو كان في الاصطلاح من الجماد. يستطيع الهلالي باشا أن يعتذر لداره بالشواغل التي تصده عن زيارة اسيوط، ولكن لي رأياً آخر، هو أن نجعل زيارة دورنا بالأقاليم النائية من شواغلنا الاساسية، فلتلك الديار حقوق، وهى أيضاً من ضمائر الوطن الغالي. وبماذا يجيب الهلالي باشا لو دعوته إلى بناء دار بأم درمان أو الخرطوم؟ لو التفت هذه الالتفاتة لكان من السهل عليه أن يخلق لمصر صداقات جديدة في السودان. وفي موضوع مناهضة الكتابة بالعامية والتحدث بها، يكتب زكي مبارك: «أنا اعترف بلغة الشارع والقهوة والبيت. لأنها أماكن يجوز فيها التحلل من التأنق، والتأنق حلية بيانية لا تفكر فيها إلا حين تقف موقف المحاربين بلسان البيان. اللغة العامية هي ثوب البيت عند رفع التكليف، ومن هنا جاز أن تكون لكل أمة لغتان: لغة عامية ولغة فصيحة، وهذه قضية لا تحتاج الى براهين ولا محامين. وأين خصومنا في هذه القضية؟ أين ؟ أين؟ للنوابغ منهم قوانين أدبية واجتماعية، فهم يحاولون أن يصلوا إلى أسماع العرب في المشرق والمغرب، وهذا لا يتسير بغير الاسلوب الفصيح لأن الاسلوب العامي يعجز عن تخطي الحدود. ولم يبق إلا الجهلة من دعاة اللغة العامية، وهم أطفال يهمهم أن يتحذلقوا بمضغ الحديث عن فكرة نبتت على شواطئ الجهل، كما نبتت البقلة الحمقاء على مدارج الغدران. نحن في هذه القضية بين صورتين اثنتين: صورة العواطف وصورة المنافع، فما موقف خصومنا من هاتين الصورتين؟ إذا فرضنا أنهم لا يبالون بما صنع آباؤهم واجدادهم في اعزاز اللغة الفصيحة إعزازاً حماها من الاندحار في عصور كانت كلها ظلمات في ظلمات، فكيف نفرض أنهم لا يبالون بمنافعهم وهى من الصميم في وجودهم الحيوي؟ أيستطيعون الاستغناء عن الشرق؟ هذا ممكن اذا ارادوا العيش في ظل الخمول، ولكنه مستحيل إن ارادوا الاتصال بالشرق، في الحدود التي توجبها أواصر الأدب ومنافع الاقتصاد. لو انتصرت دعوة خصومنا ولن تنتصر لكان من الحتم أن يحتاج المصري الى مترجم حين يزور فلسطين أو الشام أو لبنان، وقد يحتاج الى مترجمين حين يزور العراق. وان الدعوة الى العامية قد تحيي في العراق عدداً من اللغات. وأذهب إلى أبعد من ذلك فأقرر أن العصبية المحلية قد تحوج القاهريين إلى مترجمين حين يزورون بلاد الصعيد، بغض النظر عن بلاد النوبة والسودان ودارفور وكردفان! يجب أن نقتدي بما تصنع الأمم القوية، وهي تفكر في توحيد اللغة قبل أن تفكر في توحيد الأقاليم، لأن وحدة اللغة هى حجر الأساس في بناء القومية». ولقد اتاحت كتابات زكي مبارك، والتفافاته المبكرة، ومنافحته عن العروبة والإسلام، ونظراته الحانية للعناصر الوطنية دون تمييز، الفرصة لقراءة زكي مبارك الاديب والمفكر والفنان بعيداً عن خصومات الثلاثينيات والاربعينيات، وهى تمثل تطوراً نوعياً في مسيرة الفكر العربي والإسلامي في مصر الشقيقة وموقعها على خارطة الوطن العربي، وهى التفافات سبقت عصر عبد الناصر، الذي يحاول البعض أن يصور عروبة مصر بأنها واحدة من اختراعاته، والحق أن زكي مبارك كان يقظاً تجاه علاقة مصر بشقيقاتها في العروبة والسلام.