عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    ضياء الدين بلال: الرصاصة الأولى ونظريّة (الطرف الثالث)..!    وزير الخارجية يكتب: الإتحاد الأوروبي والحرب في السودان ..تبني السرديات البديلة تشجيع للإرهاب والفوضى    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    ماذا جرى في مؤتمر باريس بشأن السودان؟    العطا يتفقد القوات المرابطة بالمواقع الأمامية في الفاو والمناقل – شاهد الصور والفيديو    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    استمرار حبس البلوجر هدير عاطف بتهمة النصب على المواطنين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    حفظ ماء وجه غير مكتمل    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    خبراء: الهجوم الإيراني نتاج ل«تفاهمات أمريكية».. وجاء مغايرًا لاستراتيجية «طهران»    أحمد موسى: ده مفيش ذبابة ماتت من الصواريخ والمسيرات اللي إيران وجهتها لإسرائيل    إسرائيل تعيد فتح المدارس!    الجمارك السعودية: دخول الأدوية مرهون بوصفة طبية مختومة    حزب المؤتمر الوطني المحلول: ندعو الشعب السوداني لمزيد من التماسك والوحدة والاصطفاف خلف القوات المسلحة    ضمن معايدة عيد الفطر المبارك مدير شرطة ولاية كسلا يلتقي الوالي    محمد وداعة يكتب: الاخ حسبو ..!    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    شاهد بالصورة.. إبن عضو مجلس السيادة رجاء نيكولا يحمل السلاح مدافعاً عن وطنه وجمهور مواقع التواصل يشيد ويعلق: (أبناء الإسلام والمسيحية في خندق واحد لحماية السودان من الجنجويد)    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    أرسنال يرفض هدية ليفربول ويخسر أمام أستون فيلا    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    بعد راحة العيد...المنتخب الوطني يُعاود تحضيراته أمس    تركيا تنقذ ركاب «تلفريك» علقوا 23 ساعة    تجاوز مع أحد السياح.. إنهاء خدمة أمين شرطة لارتكابه تجاوزات في عمله    بايدن بعد الهجوم الإيراني: أمريكا ملتزمة بأمن إسرائيل.. وساعدنا في إسقاط جميع الطائرات المسيرة    الموعد الأضحى إن كان في العمر بقية،،    إعلام عبري: طائرات أميركية وبريطانية تسقط مسيرات إيرانية فوق الحدود العراقية السورية    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    والي الخرطوم يزور رموز ونجوم المجتمع والتواصل شمل شيخ الامين وقدامى المحاربين والكابتن عادل أمين والمطرب عوض الكريم عبدالله    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    «العازفون الأربعة» في «سيمفونية ليفركوزن»    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    "طفرة مواليد".. نساء يبلغن عن "حمل غير متوقع" بعد تناول دواء شهير لإنقاص الوزن    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    الضربة المزدوجة الإنهيار الإقتصادى والمجاعة في السودان!    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سلفا كير في الخرطوم
نشر في الصحافة يوم 15 - 10 - 2011

تحت ظل التوتر والاحتقان الراهن يخسر البلدان كثيراً.. ولا بد من تحكيم العقل
الزيارة التى قام بها السيد سلفا كير ميارديت قبل بضعة أيام هى بكل المقاييس زيارة تاريخية، فهى أول زيارة لرئيس دولة الجنوب الوليدة الى وطنه السابق، وقد أتت وسط أجواء من التوتر والاحتقان بين البلدين بسبب العديد من القضايا الشائكة والبؤر الساخنة والملتهبة، قضايا وملفات مضنية متعلقة بتركة الانفصال، ومنها ترسيم الحدود وقسمة النفط وملف أبيي والديون الخارجية والتداخل السكانى والمعاشى ما بين البلدين، أما البؤر الساخنة والملتهبة فهي تداعيات ما يحدث فى جنوب كردفان والنيل الأزرق الى جانب أزمة دارفور. ولعل ما يبعث على ?لتفاؤل بشأن نتائج هذه الزيارة أجواء الانفراج والتصالح التي صاحبتها والتصريحات الإيجابية التى أدلى بها الرئيسان البشير وسلفا، والتى كان عنوانها الرئيس: «لا عودة للحرب مهما اشتدت الأزمات»، ومضيا فى هذا التوجه الإيجابى حين قال الرئيس البشير: إذا خسرنا الوحدة فلا أقل من أن نكسب السلام والتنمية والاستقرار. ورد الرئيس سلفا بالقول: سنتعامل مع كل من يجر البلدين للحرب بوصفه عدواً مشتركاً.
إن التأمل فى مستقبل العلاقة بين الدولتين التوأم يوضح بجلاء أنه ما من سبيل أمامهما سوى الحرص على دفء العلاقة وحميميتها، فهما رغم الانفصال جسد واحد إن أُصيب جزء فيه بأذى تتداعى أعضاؤه بالسهر والحمى والاضطراب السياسى. وهذه الحقيقة البسيطة التى يدركها المواطن العادى فى الشمال والجنوب يجب أن تصبح دستوراً وجدانياً لدى كافة المسؤولين التنفيذيين فى البلدين، فأزمات دولة الجنوب من الطبيعى أن تنداح عبر الحدود الى الشمال، خصوصاً أن تلك الحدود مجرد خطوط وهمية لن تعيرها قبائل التماس أدنى اهتمام إلا بما تسببه لهم من مضاي?ات إدارية، وبالمقابل فإن الاحتقانات فى الشمال ستعصف رياحها باتجاه الجنوب. لقد تساوت الأقدار والتطلعات والتوجسات هنا وهناك، مما يتطلب تناغماً سياسياً لا سبيل لتجنبه أو إنكاره.
وهناك العديد من الأمثلة التى تؤكد هذا الاحتياج الحيوى المشترك، فقيام أى نزاع مسلح داخل إحدى الدولتين ستكون أول أعبائه موجات النزوح السكانى باتجاه الآخر، والشعب الواحد الذى تقاسمته الدولتان لن يجد موطن نزوح أقرب الى قلبه ووجدانه من الوطن السابق. أما فى الشأن الاقتصادى فبقدر ما كان النفط سبباً رئيساً فى تغليب خيار الانفصال لدى النخب الجنوبية، إلا أنه وللمفارقة أصبح بمثابة الحبل الوريدى المشترك الذى لا فكاك منه لضخ الدم فى اقتصاد الدولتين، فدولة الجنوب الوليدة لا سبيل امامها ربما لعقد كامل من السنوات سوى الشم?ل لتصدير نفطها الذى يعد المورد الوحيد لتسيير الدولة، بينما الشمال يعول كثيراً على سد بعض احتياجات أزمته الاقتصادية من خلال ذات المورد.. مورد مرور النفط الجنوبى عبر الأنابيب والمصافى الى ميناء التصدير ببورتسودان. وهكذا شاءت الأقدار السياسية أن تجعل من البترول بذرة تواصل وتكامل قسرى تسوق الدولتين نحو الآمال المشتركة، رضيوا هذا أم تأبوا عليه. بذرة تتوجب رعايتها وتطويرها وحمايتها من هتافات المتشنجين وزعيق المهووسين فى الجانبين الذين لا يرون أبعد من مواضع أقدامهم. ومن المهم أن نتفهم جميعنا، فى الشمال وفى الجنو?، أن هذا القدر الاقتصادى المشترك المتمثل فى المورد النفطى ينبغى أن يصبح بؤرة استقطاب اقتصادى وتكامل تنموى يفتح آفاقاً أوسع وأكبر، فالمشكل الأساسى فى البلدين التوأم هو غياب التنمية المتوازنة التى لا سبيل لإدراكها إلا فى أجواء السلام والأمن. ولعل تجارب العالم تسعفنا فى الاستهداء والاقتداء، فتجربة النفط العراقى الذى يصدر عبر الموانئ السورية والاردنية رغم ضراوة الخلافات العقائدية بين الحزبين البعثيين الحاكمين فى البلدين آنذاك، تقدم نموذجاً عملياً على أن المصالح الاقتصادية المشتركة تعلو فوق كل الخلافات.
كذلك يتوجب على السياسيين والنخب الحاكمة فى الشمال والجنوب، أن يدركوا أن ما يتجاذبون ويتشاكسون عليه فى طاولات التفاوض فى القاعات المكيفة فى الخرطوم وجوبا، لن يكون له صدى على أرض الواقع ومناطق التماس إلا بقدر توافقه مع النزوع الفطرى المتوارث بين الأهالى للعيش بسلام وتبادل المنافع واستمرار دورة الحياة التى ألفوها، وهو نزوع رعته الحكمة العشائرية التي يفوق عمرها عمر الدولة الحديثة المعاصرة. إن فصل الشتاء بات على الأبواب، وهو يمثل موسم ارتحال وتداخل سكانى بين مناطق التماس، وقد ظل هذا النشاط مأموناً لعقود وربما ?رون طوال بغض النظر عن الاحتكاكات العارضة، أما اليوم وتحت أجواء الانفصال وما صاحبه من تداعيات التوتر والاحتقان وما سيصحبه من إجراءات إدارية لا يستوعبها البسطاء من العامة، فإن أكثر ما نحتاجه فى هذا التوقيت هو تلك الروح التصالحية التى سادت لقاء الرئيسين، والتى ينبغى أن تنداح الى كافة المفاصل التنفيذية فى البلدين.
أما على الجانب السياسي فلا أرى ضمانة لتلافي الاحتقان والتوتر السياسى فى الدولتين سوى التوجه الديمقراطى، وتقبل واستيعاب التنوع العرقى والمذهبى والقبلى فى البلدين. إن أهمية هذا التقبل تكمن فى كونه مظلة لاحتواء كافة حيثيات الظلم والتهميش سواء فى الشمال أو الجنوب، وهى حيثيات تجسد الوقود الدائم لدعاوى التشرذم والانقسام وتقطيع الأوصال والإنفلات الأمنى. وعلى واقع الأحداث الأخيرة فى جنوب كردفان والنيل الأزرق، فلا أرى ضيراً من أن تعيد الحكومة النظر فى الحظر السياسى الذى فرضته على تنظيم الحركة الشعبية قطاع الشمال، ط?لما التزم بقواعد النشاط السياسى المدنى وكفّ عن التوجهات العسكرية وفكك ارتباطاته التاكتيكية مع الحركات المسلحة فى دارفور، فغاية كل نشاط مدنى ديمقراطى يجب أن تكون المساعدة فى تمدد التحول الديمقراطى واتساع رقعته. وبهذه المناسبة أنا أتفهم أن يحصر قطاع الشمال رؤيته السياسية فى توسيع هامش الحريات وبناء دولة المواطنة العادلة، لكنى لا أطيق أن ينجرف وراء الأسطوانة القديمة المشروخة التى تقتات سياسياً على استثارة الناس بما تسميه الغبن والظلم العرقى أو الجهوى أو المذهبى. إن تأطير الصراع وتصويره على أنه صراع بين الريف ?المدن هو أمر يجافى الواقع، فالمدن وفى مقدمتها العاصمة الخرطوم باتت قبلة نزوح لكل أهل الريف الى الحد التى أصبحت الحياة فيها أكثر شقاءً من الريف الذى مازالت تسوده قيم التكافل، فكان أن تريَّفت المدن ولم يتمدن الريف. ولعل دولة الجنوب الوليدة كانت أكثر حرصاً على نهج التسامح السياسى حينما عينت السيدة أغنيس لوكودو فى منصب وزير النقل رغم انتمائها لحزب المؤتمر الوطنى فى دولة الجنوب الذى يمثل المكافئ السياسى هناك للحركة الشعبية قطاع الشمال. إننا حين نطالب الحكومة بإعادة النظر فى حظر تنظيم الحركة الشعبية قطاع الشمال،?فإننا نتماشى مع فعل إجرائى غير موفق مضت فيه الحكومة، فالحكومة حسب نص القانون والدستور لا تملك هذا الحق، بل يملكه مجلس شؤون الأحزاب الذى هو جسم ذو استقلالية حسب القانون الذى قام بموجبه، وتعلوه المحاكم المختصة وصولاً إلى المحكمة الدستورية صاحبة القول الفصل فى مثل هذا الإجراء.
إن أكبر الأخطاء القاتلة التى ستعصف بالعلاقة بين الدولتين هو انغلاق أى منهما أو كليهما وراء ايديولوجية مذهبية أو عرقية مما يباعد وينسف جسور التواصل السياسى والاقتصادى والاجتماعى بين البلدين، فتمترس الشمال حول رايات الغلو والتشدد الدينى وشعارات التعصب العروبى، وانكفاء الجنوب على المذهبية المسيحية والعرقية الافريقية، مثل هذا التمترس والانكفاء هنا وهناك لن ينتج إلا علاقات مضطربة ومحتقنة تعمل على تقزيم الدولتين وتعوق أى جهد يبذل للنماء والتنمية المشتركة، بل سيسهم فى تفككهما معاً. ويجب علينا ألا ننسى تلك الملايي? الحائرة من الكتلة السكانية فى الدولتين من ذوى الأصول المشتركة الذين هم أنفسهم لا يعرفون الى أى انتماء يذهبون، ولم يدر بخلدهم أن سيأتي يوم يواجهون فيه هذا الخيار المر. ولذلك ينبغى استثمار هذا المناخ التصالحى الذي ساد لقاء الرئيسين لابتداع معادلة تحول دون هذا التفكك الاجتماعى، وربما نجد الحل فى الجنسية المزدوجة أو اتفاق حريات أربع على غرار ما بين السودان ومصر، إذ يمكن تطوير هذا الاتفاق ليصبح اتفاقاً ثلاثياً يخدم احتياجات الأمن القومى للدول الثلاث التى تتقاسم أكبر جزء من حوض النيل.
إن أجواء الانفراج التى سادت هذه الزيارة أنعشت الآمال فى نفوسنا بعد طول انقباض وتوجس، ونأمل ألا يكون هذا الانفراج طقساً عابراً كنسمات الصيف الرقيقة التى سرعان ما تتبدد، فأنا شخصياً من جيل لا يستطيع أن يرى ليل الخرطوم وقد غابت عن سمائه أنجم فى ضياء مولانا أبيل ألير، وكذلك الصديق العزيز بونا ملوال وضحكته المجلجلة التي كانت تشع البهجة والسرور في ليالي الخرطوم، ولا ريب انه لا يسعدهما أن ينسى أهل الجنوب مآثر ومثابرة المغفور له السيد سر الختم الخليفة في مجال التعليم في جنوب السودان، والخدمات الجليلة التي قدمها له? في هذا المجال.
وفي ختام حديثنا هذا لا بد لنا أن نشير بقدر حال من التقدير، إلى مجموعة من سكان شمال السودان كانت قد هاجرت إلى الجنوب، وكان لها دور بارز في تطويره الاجتماعي والاقتصادي، وقد انصهروا مع أهله حتى أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من نسيجه السكاني وتركيبته الاجتماعية، وذلك عن طريق التصاهر. فهل يصح بعد هذا كله أن يصبح «أهل أم دوم»رعايا في دولة الجنوب وليسوا مواطنين!! سؤال نترك الإجابة عليه للمسؤولين في البلدين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.