منطق الجغرافيا المناخية يقول إنه كلما أرعدت سماوات الهضبة الأثيوبية بالمطر الإستوائى الغزير كلما انداح الخير والنماء على ضفاف النيل فى السودان من محطة (الديم) على الحدود الشرقية الى وادى حلفا فى أقصى شمال السودان . هذه الحقيقة المناخية هى ما نحتاجها اليوم ونحن نأمل أن يمتد عبير أزهار الوفاق التى تفتحت فى أديس الجميلة ليعطر ويلطف أجواء الإحتقان والخلاف بين غرماء السياسة فى الخرطوم ... حاكمين ومعارضين . إن إستثمار هذه الريح الوفاقية المواتية بات فرض عين على كل الفرقاء السياسيين ، إذ على الرغم مما كان بين دولتى السودان من تباغض وجفاء سياسى وما صحبه من دوي المدافع وطلقات الرصاص فى مناطق التماس إلا أن فضيلة التعقل وترجيح المصالح المشتركة كانا الكاسب الأكبر فى إتفاق الوفاق الذى تحقق فى أديس . إن الخلاف السياسى بين أهل الحكم وأهل المعارضة فى الخرطوم فى هذه الأيام لم يبلغ ذاك العنف والتصادم الدامى الذى بلغته العلاقة بين الخرطوم وجوبا ، إذاً ما الذى يمنع أن تنداح روح الوفاق من أديس الى الخرطوم لتحفظ تماسك ما تبقى من الوطن تماماً كما تنداح المياه من الهضبة الأثيوبية لتفيض بالخير الوفيرعلى شطئان الخرطوم وبقية المناطق الاخرى التى يكاد ان يقتلها الظمأ من شدة حرارة الصيف السياسي الغائظ الذي ران على بلادنا طويلا ؟ إن التفاؤل الذى ملأ الأفئدة بهذا الإتفاق الذى تحقق مرده فى تقديرى الى رجحان ثبات هذا الإتفاق وقدرته على مقاومة أعاصير السياسة وزوابعها التى تثور أحياناً بسبب غيبة النضج السياسى أو بسبب قارعى الطبول الذين أدمنوا مناخات العنف والقتال . وهذا الرهان على فرضية الثبات لم يتأت إلا بسبب أن من وقعا الإتفاق هما رأسا الدولة فى الشمال والجنوب ، فقد بات فى حكم اليقين السياسى لدى كل مراقب حصيف أنه وفى غيبة الرئيسين يظل أى إتفاق ممهور بين البلدين مجرد حبر على ورق سرعان ما تمحو سطوره أعاصير السياسة وهوس التشنج هنا وهناك . لذلك تبقى العبرة ليست بالتوقيع وانما العبرة بالتنفيذ ولكن ورغم كل ذلك اننا نرى ان الذي تم التوصل اليه في اديس ابابا هو خطوة على الطريق الصحيح ونأمل الا تعترض طريقه تراجع او نكوص.. فشعبا البلدين - وهم في حقيقة الامر شعب واحد - حالت دون ذلك مؤامرات السياسيين وطموحاتهم الا يواصلا المسيرة متآخين ومتحابين ليكونا دولة السودان القوي المتحد، الزاخر بالموارد والغني بالثروات، ولاينقص اهله والقائمين على امره في شطري الوطن إلا الارادة القوية ، ليجعلا منه وطناً نفاخر به بين الاوطان. لاريب أن توقيع الرئيسين هو ضمانة مقدرة لثبات الإتفاق ومضيه نحو أهدافه المرجوة ولكن لا أحد يدري ما تخبئه لنا مقبل الايام فمواقف السياسة وقراراتها في بلادنا ودول العالم الثالث ليست على ثبات يمكن الاعتماد عليه فالموقف اليوم يمكن ان يتراجع 180 درجة رغم اننا نظن الا احد يستطيع ان يغامر بإنتقاد هذا التوجه الحكيم طالما هو محصن بتوقيع مؤسسات الرئاسة فى البلدين . صحيح أننا لا نتوقع أن تصمت حناجر التشنج تماماً وأن تُنحّى الطبول الى حين ولكن يقيننا أن هذا التشنج وذاك الهدير لن يكون قادراً على إنتاج فعل سياسى مؤثر تحت ظل هذا المناخ الإيجابى الذى يستمد حصانته من أعلى المؤسسات السيادية فى الدولتين . إن قابلية الإتفاقات التى وُقعت بالعاصمة الأثيوبية أديس ابابا لتكون جسر تلاق بين الحاكمين والمعارضين هنا فى الخرطوم تكمن فى أن معظم هذه الإتفاقات هى ذات ما تطالب به المعارضة وما تقدمه من أطروحات سياسية فى شأن صراع التماس بين السودان ودولة جنوب السودان ، بدءً من التعقل وعدم الشطط فى حل المشكل النفطى ومروراً بفتح الحدود وتطبيع العلاقات التجارية والمعاشية والإجتماعية فى مناطق التماس ، وإتفاق الحريات الأربع وتسوية الديون والأصول العالقة جراء الإنفصال ، والمضى الى نزع بؤر التوتر والكف عن إستنزاف كل طرف للآخر عبر حرب الوكالات هنا وهناك ، وانتهاءً بالتطلع الجاد نحو الإجتهاد فى شأن أبيى وترسيم الحدود بشكل نهائى ... هذا كله هو ما كانت تتطلع له المعارضة فى طرحها السياسى وما توافقت معها فيه الحكومة وهى تنجز هذا الإتفاق . وهنا لنا أن نتساءل : أولا يشكل هذا التوافق الذى أنتجه هذا الظرف السياسى محاور وفاق بين الحكومة والمعارضة يمكن العمل على تطويرها ؟ فى تقديرى أنه لو تجرد الطرفان من حساسية الكسب السياسى الشخصى أو الحزبى ، ولو تخلصا من ثأرات ومرارات الماضى وأعليا من سقف الإلتزام الوطنى فإنه من الممكن لرياح أديس أن تملأ أشرعة الوفاق الوطنى الذى نراهن عليه ولا نرى بديلاً سواه يجنب الوطن الإنجراف نحو الهاوية . علي الحكومة أن تدرك انها لا تستطيع أن تحلق عالياً بجناح واحد في الأفق البعيد بعد أن ظلت تهمل المعارضة في تعاملها مع قضايا الوطن، بل في كثير الأحيان تستخف بها عندما تطالبها بإشراكها فى منابر الإتفاقات المصيرية التى تبرم فى عواصم الجوار وفى غيرها برعاية دولية أو إقليمية ، وهذا فى تقديرى مطلب مقبول و مشروع ولكنه للأسف غير عملى تحت ظل التوتر والتشنج والتنافر الذى يسود علاقة الحكومة والمعارضة ، إذ يصبح من العسير ومن الغفلة السياسية أن يأتى وفد يمثل السودان قوامه الحكومة والمعارضة بكل ما بينهما من تشاكس وتنافر ليواجه طرفاً آخر متوافقاً ومدعوماً بسند إقليمى ودولى . إن التشارك فى الهم الوطنى وفى تحديد مستقبل الوطن - كم قلنا - أمر مشروع لا ينبغى أن تستأثر به جهة وتحجبه عن الآخرين ولكن هذا لن يتأتَّ إلا بسعى الطرفين معاً لتوسيع مساحات التلاقى الوطنى وتقليص شقة الخلاف طالما كانت الغاية هى تماسك الوطن وتأمين مستقبله . إن أكبر مثالب السياسة ونقائصها وآفاتها فى بلادنا هى روح الإستئثار التى تسعى لإحتكار كل ما يُحسب فى سجل الإنتصارات التاريخية (خاسرة تلك الإنتصارات أو كاسبة) ، والسعى الدؤوب لتسجيل تلك الإنتصارات كملكية حصرية لا يحق لأحد أن يتجاسر على ملكيتها بدلاً من أن نهب تلك الإنتصارات بكل تواضع وطنى لإرادتنا القومية مجتمعة ولشعبنا الصابر المحتسب ، فمنذ عهد الإستقلال ظل شرف إنجاز الإستقلال موضع تجاذب وتخاطف ما بين الكتلة الإتحادية والكتلة الإستقلالية على الرغم من أن هذا الشرف يسع كل تلك النخب المجيدة فى الحركة الوطنية ... وعلى عهد عبود ظلت الإنجازات الإقتصادية المقدرة بمثابة رصيد دعائى للنظام تحت شعار أحكموا علينا بأعمالنا ... وفى عهد مايو كانت إتفاقية السلام فى أديس أبابا 1972 والتى أوقفت الحرب لعشر سنوات والى جانبها سكر كنانة وطريق بورتسودانالخرطوم تمائم فخر حصري لآلة الإعلام المايوى ... وظلت إتفاقية الميرغنى - قرنق نموذجاً صارخاً لداء الغيرة السياسية عند رئيس الوزراء المنتخب السيد الصادق المهدى الذى عارضها لا لسبب إلا أن من جاء بها هو غريمه السياسى ... وعلى عهد الإنقاذ الحالى ظل أهل الإنقاذ يباهون بإنجاز إستخراج البترول فى ظروف حصار دولى قاس ويفاخرون بإتفاق السلام فى نيفاشا لدرجة أن عدوه فى تلك الأيام إستقلالاً ثانياً . روح الإستئثار هذه والنزوع نحو إقصاء الآخرين على مختلف الحقب التى مرت بالبلاد هى العقبة الكؤود التى تتحطم عندها كل خيارات التوافق الوطنى ، وكأن كل القوى السياسية تخوض سباق (دورى) تاريخى تسعى فيه لمراكمة النقاط فى رصيدها دون الإعتراف بإخفاقات الهزائم أو الرضى حتى ب نقطة التعادل . إن هذا الوطن العزيز يسعنا جميعاً وعلى كل القوى السياسية أن تدرك أن لكل واحد منا سهم فى إنتصاراته ، وأن إنكساراته هى خسارة فادحة لنا جميعاً وعار تاريخى ينبغى السعى بعزم وطنى لتجنبه . إن ما طالب به السيد الصادق المهدى من آلية قومية قوامها قوى المعارضة والحكومة يتم فيها من جانب الحكومة عرض هذه الإتفاقات والتداول حولها من الطرفين هوايضاً مطلب مشروع وعقلانى يمنح هذه الإتفاقات زخماً قومياً يعينها على الثبات والصمود ، وفى تقديرى أن مثل هذا الطرح يمثل بادرة ناضجة لإستثمار روح الوفاق الوطنى التى هبت رياحها من أديس للمضى قدماً فى طريق الوفاق والتشارك فى الهم الوطنى ، ومن الممكن أن ينداح هذا التوجه الإيجابى نحو إنجاز دستور وفاقى لا يُقصى من التوافق عليه أى كيان سياسى مؤثر ، ولا أرى ما يضير لو توافقنا على تشكيل جمعية تأسيسية محدودة العدد - عبر التراضى الوطنى وليس الإنتخاب - تُمثل فيها كل الأطياف السياسية وقوى المجتمع المختلفة دون إستئثار أو إقصاء ونعهد لها بوضع وإجازة مسودة الدستور المقترح ثم يطرح فى إستفتاء عام على الشعب . هذا بعض تصور قد لا يفى بالطموحات لدى مختلف الأطراف حاكمة أو معارضة ولكنى واثق أن منهج التوافق الوطنى لو تم إعتماده وارتضائه من مختلف الفرقاء كفيل بإبتداع آلية ما تكون موضع إجماع وطنى يمضى ببلادنا نحو التماسك والوئام الوطنى . خاتمة القول ... إن المناخ الوفاقى الذى أنتج الإتفاقات الأخيرة فى أديس ابابا بين دولتى السودان ينبغى إستثماره وتوظيفه لإنتاج وفاق سياسى داخلى اي يخرجنا ويخرج الوطن من أزماته المعقدة ، فما من سبيل إلا اذا تم التوصل الى اتفاقات مماثلة مع كل الحركات التى لها مطالب بما في ذلك التى تحمل السلاح لكي يتحقق الامن والسلام في ربوع بلادنا والذي بدونه تصبح كل الاتفاقيات التي يتم التوصل اليها حبر على ورق ولذا فإن الضرورة تحتم ان تشرع الحكومة في اجراء محادثات مع تلك القوة حتى يتغير المناخ السياسي وتتهيأ الأجواء وتتسع المساحات لكي يسود السلام في ربوع السودان .