أجدني خلال أيام قليلة أتناول المؤتمر الوطني في قضيتين، الأولى تتصل بتشكيل الحكومة وعدم مشاركة القوى السياسية في الحكومة ذات القاعدة العريضة التي دعا لها الحزب الحاكم عقب انفصال الجنوب. وفي هذه المرة أتطرق للمؤتمرات التي تم عقدها خلال الأيام الماضية، وقد تابعت بعضا منها عبر وسائل الإعلام خاصة مؤتمر قطاع المرأة الذي أفرد له التلفزيون السوداني مساحة واسعة في ذات اليوم الذي كان رئيس جمهورية جنوب السودان الفريق أول سلفا كير ميارديت ينفذ زيارته التاريخية للخرطوم، بدعوة من أخيه المشير عمر حسن أحمد البشير رئيس جمه?رية السودان، والتي جاءت بعد ثلاثة أشهر من انفصال الجنوب وإعلان دولته. وانصرف الاهتمام الإعلامي التلفزيوني لمؤتمر قطاع الشباب بالمؤتمر الوطني كذلك، وتصدرت أخباره نشرات التلفزيون متفوقة علي خبر الرئيس الزائر. أما مؤتمرالقطاع السياسي فقد اطلعت على أوراقه وخاصة ورقة الجمهورية الثانية .. صورة النظام السياسي الجديد التي كتبها الدكتور إسماعيل الحاج موسى، وورقة الأستاذ ربيع حسن أحمد «المؤتمر الوطني وقضايا المرحلة القادمة» وتيسر لي حضور الجلسه الافتتاحية لمؤتمر القطاع الفكري الثقافي الإعلامي للمؤتمر الوطني بولاية ?لخرطوم بدعوة من مكتب الدكتور عبد الرحمن أحمد الخضر والي الخرطوم، والدكتور مندور المهدي نائب رئيس المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم، وأنا دائما أُأرخ للدكتور مندور بأنه أول من أجريت معه حوارا صحفيا في السودان عندما كان مسؤولا عن منظمة شباب البناء الوطني فيما بعد في ثمانينيات القرن العشرين، واستمعت لكلمة محمد مندور المهدي والدكتور كمال عبيد وزير الإعلام وضيف شرف المؤتمر. ويمكنني أن أسمي المؤتمرات الحالية للمؤتمر الوطني بمؤتمرات يسألونك، حيث طرح البروفيسور إبراهيم أحمد عمر الأمين العام السابق وهو آخر أمين عام للم?تمر الوطني قبل تعديل النظام الأساسي ومستشار رئيس الجمهورية حالياً، طرح عدة أسئلة وجدت اهتمام العديد من الكتاب والمهتمين، وهناك تساؤلات من قبل الدكتور محمد مندور المهدي، والأستاذ ربيع حسن أحمد في ورقته طرح عدة تساؤلات، والدكتور إسماعيل الحاج موسى كذلك، ودارت الأسئلة في مجملها حول مواقف الحزب في الحوار مع القوى السياسية المعارضة وتحديد سياسة واضحة المعالم في التعامل معها. وهذا مما جاء به البروفيسور إبراهيم أحمد عمر الذي طلب من المؤتمرين الإجابة على عدة أسئلة ذات صلة بالقضايا والبرنامج السياسي للحزب وتصحيح مس?ره. ومما طرحه من أسئلة مباشرة: هل كان الحوار مع أحزاب المعارضة يقوم على خطى صحيحة؟ وهل تعاملنا مع هذه الأطراف بطريقة صحيحة؟ وقال: لا بد أن نحدد ما إذا كان حوارنا مع حزبي الأمة القومي والاتحادي مرتبا وواضحا وصحيح الخطوات، أم كان حوار طرشان؟ وقال في هذا الخصوص لا بد أن نحدد في حوارنا ما إذا كان المؤتمر الوطني بالفعل حزبا رساليا يقدم النموذج، وما إذا كانت اجتماعاته صورية شكلية ظاهرية أم شورية، وتحديد مدى الالتزام بالشورى ومن الذي يضع السياسات ومن يقودها ويدافع عنها؟ واضاف أنه لا بد أن يحدد الحزب أي نوع من الد?مقراطية يريدها المؤتمر الوطني الليبرالية الحديثة الفردية أم الاقتصادية الاجتماعية أم الديمقراطية الحديثة التي تستفيد من التقانات الحديثة في أدوات الاتصال؟ وهناك سؤال طرحه البروفيسور إبراهيم أحمد عمر وتم طرحه من قبل آخرين، وهو: ماذا تعني الجمهورية الثانية؟ هل هي شعار أم مضمون؟ وما إذا كانت تعني حكم الشعب بالشعب؟ وبالنسبة للدكتور قطبي المهدي فقد قال إن مسمى الجمهورية الثانية ليس محل اتفاق عندهم، وقد برر ذلك: بأن العمل بالمضمون وليس بالشعارات، وأن المرحلة القادمة تحتاج إلى أجندة جديدة وسياسات جديدة. وبالعودة ?تساؤلات البروفيسور إبراهيم أحمد عمر نجده قد حث على تحديد ما إذا كان ضروريا تنحي الساسة عن الساحة وتركها لتدار من قبل الاقتصاديين في ظل طغيان قضية العدالة الاجتماعية على الأطروحات السياسية. أما الدكتور محمد مندور المهدي فقد طرح تساؤلات ولكنه أجاب على بعضها عندما قال: إننا بانفصال الجنوب حسمنا قضية كانت مثارة في السودان، وهي قضية الهوية، كما حددنا ماذا تعني المرجعية الإسلامية، ولا شك عندي أن كثيراً من المهتمين والباحثين قد يتحسسون مسدساتهم عندما يسمعون أن قضية الهوية قد حسمت بانفصال الجنوب، وكأننا كنا ننتظر ?ذه المناسبة الحزينة لكي نحسم هوية شمال السودان أو السودان «الفضل» كما يقولون. وتساءل الدكتور مندور عن الجهوية والقبلية في السودان التي أصبحت ثقافة سائدة، وهي جزء من المعادلة السياسية وجزء من ثقافتنا وجزء من شعاراتنا. وعن ثقافة العنف في السودان تناول ما حدث بولاية الخرطوم من تظاهرات بسبب أزمة المواصلات، وأقرَّ بأن المظاهرات عمل مشروع، ولكن المرفوض هو العنف المصاحب، حيث حرق المتظاهرون سيارة ونهبوا شركة الكهرباء، وهذا عمل مرفوض. وتساءل عن ثقافة الحوار وإعادة النظر لطبيعة الدولة والتبادل السلمي للسلطة. وجاءت تساؤلات الأستاذ ربيع حسن أحمد في محور الإصلاح السياسي، مركزة حول قضايا بعينها وتمثل تحديات أساسية لحزب المؤتمر الوطني، وهي قضايا الشفافية. ويقول الأستاذ ربيع: إن احتكار المعلومة والمبالغة في سرية الأمور قد تكون ذريعة لتغييب الناس عن متابعة ومعرفة ما يدور حولهم، وفي غياب الشفافية يصبح الباب مفتوحا للتأويلات والتفسيرات، وهي مسألة ضارة وقد تلصق التهم بأبرياء، وتكون سبباً لابتعاد كثير من الناس عن العمل جملة. وتناول قضية الفساد وهي قضية تشغل الرأي العام، ونسمع فيها الأقاويل والأقاصيص، وهذه المسألة يجب أن ?ؤخذ مأخذ الجد، ويجب أن نتأكد من الآتي: أولاً: هل هناك قوانين رادعة للفاسدين؟وهل هذه القوانين شاملة ومحددة للأفعال التي تدخل دائرة الفساد؟ ثانيا: هل هناك إجراءات محددة يتخذ القرار في إطارها ويتصرف المسؤول وفقها؟ ثالثا: هل تتيح الممارسة لصاحب السلطة أن يتصرف خارج نطاق اللوائح؟ رابعا: هل النظم التي نتبعها توجب علينا أن تسجل كل خطوة تتخذ وتتم المعاملة وفق دورة محددة؟ خامسا: ماذا تقول اللوائح في حالة تخطيها أو تجاهلها؟ سادسا: هل هناك جهة مسؤولة تتابع ما يدور وتضع المسؤول أمام جهات التحري والعقاب؟ وما هي هذه الجهات؟ سابعا: هل هناك وسيلة واضحة للذين يتضررون من المعاملات التي تسلبهم حقوقهم للوصول إلى الجهات التي تعينهم على استرداد حقوقهم المسلوبة؟ ومن الواضح فإن المؤتمرات التي عقدت خلال الأيام الماضية تخص المؤتمر الوطني من الناحية الحزبية والتنظيمية، وهو أمر مطلوب أن تشهد الساحة السياسية نشاطا حزبيا من خلال تقارير، وبحث العلاقة بين الحكومة والحزب، ومساهمة الحزب في ما حدث من قضايا ومشروعات كالانتخابات العامة والاستفتاء على تقرير المصير والمشورة الشعبية. وذلك من خلال اجتماعات للقطاع السياسي للحزب بلغت «64» اجتماعاً راتباً، واجتماعات طارئة بلغت في مجملها سبعة اجتماعات تم من خلالها تحليل المسرح السياسي في مختلف القضايا والموضوعات المطروحة على الساحة الس?اسية على الصعيد الداخلي والخارجي، وذلك حسب تقرير موجز عن أداء القطاع السياسي خلال الفترة من أكتوبر 2009م وإلى سبتمبر 2011م. ورغم ذلك لا بد لنا من أسئلة حول الأسئلة التي طرحها قادة المؤتمر الوطني في مؤتمراتهم التي لم تجب على الأسئلة الحائرة في أذهان الناس حول الاقتصاد وارتفاع الأسعار، وحول الفساد الذي صار من أكبر مهددات الحياة الاقتصادية بالبلاد، وحول الشفافية والحكم اللامركزي والحريات والسلام في جنوب كردفان ودارفور والنيل الأزرق عقب انفصال جنوب السودان. وكما هو معلوم فإن المؤتمر الوطني هو حزب حاكم على مدى ?كثر من عقدين من الزمان، ويتحمل المسؤولية طيلة هذه السنوات من حكمه للسودان وما حدث فيه بما في ذلك انفصال جنوب السودان. ومن المقرر أن يمتلك الإجابة عن كافة التساؤلات وإيجاد الحلول لمشكلات البلاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي على العكس من إيجاد الحلول لها نجدها تتفاقم وتتعقد، والحزب الحاكم يهرب إلى الأمام ويتحدث عن قضايا ملحة وأساسية على أنها قضايا المرحلة القادمة. فكيف يكون الفساد مثلا من قضايا المرحلة القادمة وهو مشكلة متراكمة وحاضرة في الواقع السياسي والتنفيذي والإداري باعتراف الحزب نفسه في ورقة ?المؤتمر الوطني وقضايا المرحلة القادمة». وإذا تناولنا الأسئلة التي طرحها البروفيسور إبراهيم أحمد عمر حول الحوار بين المؤتمر الوطني وحزبي الأمة والإتحادي: ما إذا كان حوارا مرتبا وواضحا وصحيح الخطوات أم كان حوار طرشان، فإنه من المعلوم أن الحوار مع حزب الأمة القومي كانت تتولاه لجنة من قبل المؤتمر الوطني يقودها الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل وزير الخارجية الأسبق ومستشار رئيس الجمهورية، ونحن نسأل هل كانت تلك اللجنة تطلع الحزب أولاً بأول بما يحدث من حوار؟ وهل الحزب هو من كلف الدكتور مصطفى ولجنته بالحوار، أم كان ذلك بتكليف مباشر من رئيس الجمهورية؟ وما علا?ة ذلك بالحزب؟ وهل كان الحوار بين الحزبين الأمة والمؤتمر الوطني يهدف لمشاركة حزب الأمة في الحكومة العريضة؟ وما الذي أفشله؟ وهل تمت مساءلة سياسية حول أسباب الفشل؟ أم أن المساءلة عملياً غير ممكنة لطبيعة المؤتمر الوطني التنظيمية والسياسية، وكذا الحال مع الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل الذي كان زعيمه السيد محمد عثمان الميرغني لا يتحدث إلا مع رئيس الجمهورية، ويلتقي به في القاهرةوجدة، والرئيس يوافق على ذلك، رغم أن هذا يأتي على حساب الحزبين وعلى حساب الحوار نفسه. وحسب التقرير المقدم من القطاع السياسي فإن حوار الم?تمر الوطني شمل تسعة عشر حزبا وكيانا سياسياً، فهل كانت هذه هي أحزاب الدقير والصادق الهادي المهدي ومسار ونهار التي لا فرق بينها وبين المؤتمر الوطني الذي ظل يحاور نفسه، وهذا لعمري حوار الطرشان لو كانوا يعلمون. ويبحث المؤتمر الوطني عن الديمقراطية التي يريدها حسبما جاء به البروفيسور إبراهيم أحمد عمر من تساؤلات، والتي يفهم منها أن المؤتمر الوطني يفتقد للديمقراطية، وهذه هي صورته لدى الآخرين ولا مجال لتعديلها في غياب الرؤية للديمقراطية نفسها التي تجسدت عبر كثير من الأوراق والمداخلات من خلال هذه المؤتمرات. وكذا الح?ل بالنسبة للأزمة الاقتصادية التي تواجه البلاد وغلاء الأسعار الذي صار أكبر مشكلة وتحدياً أمام المواطنين من ذوي الدخول المحدودة والمرتبات، وسبق للقطاع الاقتصادي للمؤتمر الوطني أن عقد اجتماعا طارئا أو تنشيطيا قبل السابع من يوليو 2011م وإعلان قيام دولة الجنوب رسمياً، ولم يتم التوصل لرؤى أو حلول للأزمة التي يبدو أنها غير متحسب لها من جانب الحكومة وحزبها، وكان بعض الاقتصاديين التنفيذيين يمنون الناس بالمن والسلوى عقب انفصال جنوب السودان، وذلك رغم خروج النفط من الميزانية كليا وذهابه للجنوب. وتحدث البعض عن نفط الشم?ل الذي سوف يحل محل نفط الجنوب، وعن الذهب، ولم يحدث شيء من كل هذا، وبلغ سعر الدولار رقما مخيفا. ومن بين التساؤلات المطروحة قضية القبلية التي تؤرق البعض وتقض مضاجع الساسة في الحزب الحاكم الذين نثق في خليفاتهم الفكرية والثقافية للقبيلة ودورها في التعارف بين الناس لكونها حاضنة شعبية مهمة، ولكن واقع الحال يقول إن الانتخابات السابقة في السودان أفرزت القبيلة وأبناء القبيلة، لدرجة أن الحزب كان يناصر المرشح الذي يمكن أن «يجيب» الدائرة بغض النظر عن علمه وخبرته وسبقه، وكان التسابق والتنافس الانتخابي قد أعمى بصيرة الح?ب السياسية وأن يتغاضي عن بعض الدوائر الانتخابية لشخصيات من المعارضة، ولكن وصولها للبرلمان يعني الكثير بالنسبة لمناطقها وللساحة السياسية نفسها، ولما نفتقده اليوم من روح المنافسة والقومية في مجلسنا الوطني المركب تماما قبليا ومناطقيا. والقضية الأساسية التي يدور حولها النقاش والحوار وأخذت كثيراً من الجهد الفكري والمالي هي قضية الدستور الدائم للسودان، وقد دخلت كثير من منظمات المجتمع المدني على الخط وتداولت المؤسسات النسوية حول إمكانية إنصاف المرأة والنوع وقضايا العدالة. ونستطيع القول إن الساحة بين هذه المكونات ?شهد تقاربا واتفاقا على أهمية الدستور والالتزام بنصوصه، وكان ذلك واضحاً في العديد من الورش والمؤتمرات التي انعقدت، ومنها مؤتمر قضايا المرأة والنوع الذي نظمه معهد أبحاث السلام ومعهد البحوث الاجتماعية بجامعة الخرطوم أخيراً، وكما قال أحد المتحدثين فإنه تبقي قضية الدستور الدائم للسودان هي قضية القوى السياسية في المقام الأول، فإن لم تجمع الأحزاب والكيانات السياسية فلن يتحقق دستور دائم للسودان، وسيكون مصير هذا الدستور هو ذات المصير الذي وجده دستور 1998م الذي تمت إجازته في استفتاء شعبي، ودستور 2005م الانتقالي الذي?حكم الفترة الانتقالية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وترفض القوى السياسية كلا الدستورين لطبيعتهما الانفرادية والثنائية، ومما يدل على الرفض ما أعلنته قوى المعارضة من رفض لإعداد دستور دائم للسودان إلا بعد سقوط حكومة المؤتمر الوطني من خلال الثورة الشعبية على شاكلة الثورات العربية، هذا يعني إسقاط الجمهورية الثانية التي لم تبدأ بعد، ولم يكن الربيع العربي غائباً عن كثير من الساسة في المؤتمر الوطني، رغم مكابرة البعض الذين يستبعدون حدوث تغيير من هذا النوع في السودان.