كلمة افتتاحية سؤالات الكتابة الروائية أود أن أؤكد على خصوصية رغبتي، وإلحاحها في طلب إجابات مقنعة لهذه الأسئلة التي أستثيرها ..أولاً ، أيهن تمثل أنموذجاً أصلح للقراءة السردية في عصرنا هذا: الحرب والسلام لتولستوي، أم العجوز والبحر لهمنجواي؟ الأولى تقع في (1344 صفحة)، والثانية تقع في (120 صفحة) .. بمقاييس الظروف التي نعيشها ليومنا هذا، أنا أعتقد بأن الأكثرية من عُشاق الفن الروائي يميلون لقراءة العجوز والبحر، غير أننا قد لا نعدم من لديه الدوافع للتفرع لمطالعة الحرب والسلام.. ربما يلعب الفارق الزمني بين الروايتين دوراً مهماً في نوعية الاكتراث للحياة التي تعرضها كل من الروايتين.. فالحرب والسلام اكتمل نشرها عام 1869م، بينما ظهرت العجوز والبحر كاملة في عام 1952م ..فإلى أي حد تبدلت الحياة والاهتمامات في 83 سنة؟ لكنني أيضاً أشك في أن صورة الحياة ومذاقها هي التي تحدد جوابنا حول جواذب اختيارنا للروايات?ومدى صبرنا عليها.. فقد نلاحظ أن الترجمات من الإلياذة و الأوديسة لا تزال تجد رواداً أكثر من أي رواية حديثة حتى يومنا هذا.. والمعلوم هو ارتكازهما على نوع الحياة اليونانية في القرن الثامن قبل الميلاد.. لكنهما في ترجماتهما النثرية لا تتعديان غالباً المائتين من الصفحات. أريد أن أقوي الظن بأن الرواية الجيدة والجاذبة للقراءة في عصرنا هذا والمرغوبة أكثر من سواها هي التي تنضغط كل عناصرها في حدود 250 صفحة: أحداثها وحيوية شخصياتها، ومؤداها العميق، ومغرياتها الإيقاعية، وتكثيفها لنبض الحياة، وطرافتها الأسلوبية .. كل ذلك لصنع متعة وتشويق يقبضان على اهتمام القارئ ويعيدانه لمواصلة القراءة..بل يجبرانه على المعاودة، حتى ولو يُقسِّم سويعات القراءة على الأسبوع أو الأسبوعين، و بالإعادة والتكرار.. فمحنتنا اليوم هي كيف نوفر زمناً للفن الذي يعِدُ الروح والوجدان بالإشباع وبالإنعاش.. وانتقل الآن إلى سؤال يؤرقنا كسودانيين: أترانا لحقنا حقاً بعصرنا؟ وهل لحقنا بالمتقدمين علينا في الكم أم في الكيف؟ وسوف نطمح أن يوفر لنا نقادُنا بعض من الإجابات .. فهم يتفقون على أننا جربنا الرواية منذ 63 سنة، حينما أصدر عثمان محمد هاشم روايته تاجوج عام 1948م .. وقد نجحنا بجدارة في اختبار الكيف إذ انضمت موسم الهجرة إلى الشمال إلى أحسن وأجمل مئة رواية كتبت على المستوى العالمي، أي اعتباراً من حقبة سريان الرواية كعينة فنية ذات مواصفات ، وهو مدى لا يتعدى الثلاثة قرون، بين الثامن عشر والعشرين .. لكن في الكم? هنالك بالتأكيد تقصير نستطيع أن نلقي بتبعته على أعذار مثل وجازة الزمن الذي تيسر لنا منذ أن منحنا الاستعمار فرصاً لترقية وعينا بالآداب والفنون في العالم، أي في الثلاثينات من القرن العشرين.. والآن، أرغب في صياغة نفس السؤال، فأقول: أترانا استوعبنا التجربة العالمية عن دور الرواية في إثراء الوعي الجمعي الذي يربطنا بالساحة العالمية؟ صحيح ربما يبلغ إنتاجنا من الروايات أكثر من المئة .. ولكن، قد يحّزُ في النفس، أننا في أغلبها، نُقلد المُقِّلد .. فالذين يكتبون رواياتهم بعد الاستغراق في الروايات العربية أو في الجم من الروايات الأفريقية واللاتينو أمريكية وترجماتها، هم الأكثرية من روائيينا .. وتتركب الأسئلة: هل درّسنا في مناهجنا تقنيات الكتابة الروائية أعني في جامعاتنا، أم لا يزال مُعظم منهج الأدب ا?عربي كلاسيكياً؟ هل لدينا مكتبات تجارية توفِّر الروايات العالمية الشامخة ونقدها باللغات التي ترجمت لها وهي لدينا مفهومة؟ هل جمعنا ونشرنا مختارات من الإبداع السردي السامق أو المقالات التوجيهية والإفادات الصادرة عن الروائيين ونقادهم؟ هل ساعدت جهات حكومية أو مدنية في إعداد ورش جادة لتعريف الطامحين للكتابة الروائية بالوصفات الرفيعة لحرفيات الكُتاب الذين فازوا بجائزة نوبل للآداب؟ كيف لناشئتنا أن يبدعوا روايات تتماشى مع المطلوبات الفنية العالمية وهم لا يتعدون إحدى الحالتين: فإما أنهم يقلِدون المُقلِدين؟ .. وأما أ?هم يقفزون مباشرة من القدرة على صياغة الجملة العربية السليمة إلى كتابة الرواية دونما كدح من الكثيرين لمعرفة شروط الكتابة الروائية؟ والتعميم خطأ قطعاً.. فقد نبغ لنا كُتاب رواية شبان وشابات كُثر.. ولكن لا يزال هناك، المتوهم بأن العبقرية إنما تولد رأساً عند ا الموهوبين المحظوظين لترفعهم من لحظة التجريب إلى لمعان النجومية؟ لقد أنتجت لنا روايات جيدة وممتازة قبل انطلاق جائزة المرحوم الطيب صالح.. ثم تميزت من داخل الجائزة أو من خارجها عددٌ وفيرٌ من الروايات منذ بداية هذا القرن .. ولدينا أسماء روائية محترمة مقدرة في مدانا الإقليمي العربي والعالمي: ..ويبقى الإنتاج المتواضع حول هذه النجاحات عنصراً دالاً على وفرة الخيال والجهد والتطلع نحو التعلم والمران والإتقان.. من محاولتنا الإجابة على السؤالين السالفين يطلع سؤالنا الرئيسي الثالث، وهو: ماذا نقصد بدور الرواية في إثراء الوعي الجمعي الذي يربطنا بالساحة العالمية؟ في اعتقادي أن نبدأ بالتفكير عن حاجتنا للرواية.. الحاجة لأن نصنع وعياً موازياً لحسِّنا بالحياة التي نختبرها. .. فالحياة التي نعيشها هي روتين من الصحو والغياب يدحرجنا من الدقيقة إلى الساعة، إلى اليوم، إلى الشهر، إلى السنة.. ثم نفاجأ بنهاية عمرنا فنخرج من اختبار الدنيا إلى ما بعدها في الغيب.. أما ذلك الوعي الذي نصنعه في الرواية فهو تخيّل يحمل قدراً يكاد يتلامس مع صدقية الحياة، وقد يحتوي على شيء من الخيال المشتط الذي يوازي العجائب والخوارق المجربة في تصورنا للوجود.. أن توجد في الرواية صورة الإنسان الطبيعي في إمكانياته، والمكان الذي يقلد أمكنتنا، والزمان الذي لا يخالف وتائر أزمنتنا، والأشياء هي الأشياء من حولنا على ذات النسب والأحجام : عادياً وغريباً وخارقاً .. لكننا ندرك أن هذا العالم المُتخيل هو مثل ضرب الأمثال غير قابلٍ للإمساك به.. وهو عالم يتميز عن عالمنا المنساب الذي لا نستطيع تحديد أو?اقتطاع بداية أو نهاية له في وعينا بالدفق الزماني.. وعلى النقيض، فالرواية تبدأ بموقف وتنتهي بموقف، وهي محبوسة في وعاءٍ قابلٍ للاستعادة لا تزيد فيه ولا تنقص.. وما بين موقفي البداية والنهاية يحاول مٌبدعها أن يُقنعنا بأن الذين يتحدث لنا عنهم (متى ما نبدأ الإطلاع) هم بشرٌ أمثالنا، يتصرفون بما يشبهنا، ويتعرضون لأحداث مثل ما يجري لنا، ويتوقعون لأنفسهم مستقبلاً، تماماً كما يتذكرون ماضياً لهم ولأسلافهم.. لكن المهم من كل هذه الصنعة هو أن الروائي يحاول أن يؤسس لنا في الإطار الزمني للأحداث المحكية، يؤسس معنى للحياة التي يعرضها.. معنى اجتماعيا، عاطفياً، وجودياً، غ?بياً و فلسفياً.. ليقدم لنا :أيّاً من ذلك، بعضاً من ذلك، كلاً من ذلك، أو فوق ذلك.. يأمل أن ينجح في إقناعنا على حسب قدراته السردية بأنها حياة شاملة.. هذه الحياة التي نقرأ عنها، وظيفتها لدينا هي أن تكافئنا على المتابعة والاستغراق ببذل المتعة في أدواتها الفنية والاقناعية.. وأن تعلمنا حكمةً أو حكمتين أو زيادة.. مثلاً: ما هي الطبائع التي لا نعرفها نحن عن البشر؟ وما نوع المشاعر (المرغوبة أو الممقوتة) التي لم نختبرها نحن حتى ساعة قراءتنا؟ وكيف نتصرف بعقل إذا ما واجهتنا مواقف مثل ما يواجه شخصيات بعينها في الرواية؟ الرواية هنا تلعب دوراً ثلاثياً يجمع بين عِبر التاريخ وتحليلات الراهن واستشراف المستقبل.. التاريخ يسعى لتفهيم الناس بالمعاني الموجودة في ما مرّوا بها وكل البشر من الأحداث.. والمستقبليات هي استراتيجيات توجّه العمل المأمول نحو الخطوات التي ترجو الأمة أن تقودها إلى مقاصدها.. أما الرواية فتحاول في عالمنا تصميم المفردات الشاملة للحياة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، حتى نستوعب (إن أمكن) مغزىً للحياة نجد لديه الجدوى من تأملها.. إذا فشل الروائي في إقناعنا بأي من هذه المطلوبات فهو على قدر فشله ذاك يتخذ موقعه في السلم الذي يُقاس عليه في كتابة الرواية: وطنياً، وإقليمياً، وعالمياً .. وإذا فشل في أحد أعماله، عليه أن يبذل مجهوداً للتعويض عن ذلك بمزيد من التحسين في ما عداه.. فحتى أفضل الروائيين العالمين ممن فازوا بجائزة نوبل كانت بعض رواياتهم فاشلة أو متواضعة وضارة بسمعتهم.. كان الطابع العام للرواية السودانية بين 1948م و1965م انشغالها باستلهامات رومانسية وميلو درامية مع محاولات جمة في الواقعية الطبيعية وفي الواقعية الاشتراكية .. وكل هذه الاستلهامات كان قد تجاوزها الزمن يومئذ .. لكن علينا أن نعترف بأن بداياتنا هذه تظل على مستوى البدايات المماثلة في الثقافات الأوروبية والروسية والأمريكية والعربية.. كذلك فقد رأينا بعد 1980م توليفات عدة على نموذج الرواية المُغتربة، أعني تلك التي تتخذ من تنقلات السوداني بين الداخل والخارج مسرحاً لأحداثها.. وكانت موسم الهجرة إلى الشمال قد ارت?دت هذه العينة منذ الستينات وصارت مثالاً يحتذى.. وكما نعلم، لم تستطع أن تناجزها في نجاحها ذاك رواية سودانية من المكتوبات بالعربية أو باللغات الأوروبية.. وأحسب أن الطموحات للنفاذ إلى العالمية من هذا المدخل ومن التصورات للدكتاتورية وللقهر الوطني ستستمر.. كذلك تغلب في رؤيتي بين 1970م و 1990م شواهد لروايات اختبرت مادتها في ظل الواقعية النقدية وفي أسئلة التأزم الوجودي ، وأعملت هذه الفلسفات وما من جنسها في استخدام مجتهد للتقنيات المُستخلصة من النظريات السايكلوجية مثل تيار الوعي والمنلوج الداخلي والاسترجاع الذهني .. وقد وظفت هذه التقنيات في معالجة قضايا مثل التلاقي السلالي بين المكونات السودانية ونواتجها، كما ظهرت في عدة روايات ريفية وحضرية توزعت بين السبعينات والألفينيات .. وربما رأيت أن معظمها تضمنت رؤيات سياسية ووجودية قلقة.. ربما لم تعد لسؤالات الهوية عندنا ذلك الإلحاح الذي جثم على رواياتنا في النصف الثاني من القرن العشرين، ثم حل محلها تيارٌ من التقريع التاريخي للضمير الاجتماعي .. ولكنني منزعج من المنحى الاثنوغرافي في كتابة الرواية، أي ذلك الذي يركز على تصوير سبل كسب العيش في الريف السوداني وما يصاحبها من التقاليد والشعائر المحلية.. وهذا النمط قد يبقى معنا لزمن إن لم ينتبه كتابنا الروائيون القادمون من الأقاليم إلى مطب الهزال الفني الموجود في هذا النوع من التسجيل الخام للحياة الريفية في قوالب حكائية، وما لم يمتلك كتابها ق?رات تحولها إلى صراعات إنسانية تُعللِِ لها وتقدمها بموضوعية وبجمالية مواكبة.. الوعي الوطني والمرحلة الإنمائية التي نعيشُها، بصعوباتها، قد تحدد نوع الأسئلة التي يفكر الروائيون الجادون في الإجابة عليها.. فهناك مثلاً السؤال: متى تكتب لدينا الرواية العُمالية؟ خاصة بعد ما شاعت في بعض مدننا الصناعات الأولية والتحويلية منذ أكثر من أربعة عقود، ولحقت بالصناعة اليوم نفرات التعدين؟ ونسأل أيضاً: ألا تبدو العرقيات حتى الآن مثل الأسلاك الشائكة التي تفصل بين مجموعاتنا السكانية؟. فهل يتجه الروائيون السودانيون نحو معالجتها وتبيان آثارها السالبة التي طالما عرقلت تقدمنا منذ الاستقلال، وأنها مع ال?حن السياسية والدينية والاقتصادية نجحت في تشطيرنا في 2011م؟ .. ويحضرني سؤال أخير: متى نشهد متابعة جادة لمعالم الحياة البرجوازية والأرستقراطية في حواضرنا؟ ذلك مع التحوط ألا يتردى بنا بعضهم فنياً لضحالات التحليل الرمزي الطبقي الذي أبتلى به الحكائيون العرب طوال القرن العشرين.. ولعل التنقيب في الطبائع البرجوازية والارستقراطية تلك تقودنا نحو توضيح لسبل تجلية فضائل مجتمعنا التكافلية وقدراتها على امتصاص التباين الكسبي ونزع ما به من أشواك والالتفاف بعيداً عن أمراض الاستهلاكية.. لقد راهنت على لطول بالكم، وعلى ثقتكم بأنني لا أملك الإجابات على ما أملك الإجابات على ما أوردت.. ولعل مؤتمركم هذا يخرج بالبعض مما يريحنا جميعاً.. وشكراً لكم.