رغم أن الدستور كفل للمواطنين حق التظاهر السلمي، الا ان ممارسة هذا الحق لم تكن مألوفة حتى وقت قريب، ولكن تزامناً مع الربيع العربي انتظمت مظاهرات مختلفة الدوافع والمطالب الولايات خلال هذا العام حتى تجاوزت الاربعين مظاهرة، لتطرح هذه المستجدات جملة من الاسئلة على شاكلة، هل هي مظاهرات عفوية هدفها ايصال صوت المواطنين للمسؤولين بالدولة ولفت انتباههم للضائقة المعيشية وتردي الخدمات، أم هي عمل منظم تقف من خلفه القوى السياسية المعارضة كما تردد الدولة، ام الاثنان معا، وهل ألقى ربيع الثورات العربية بظلاله على المشهد ال?وداني وتحرر المواطنون من حاجز الخوف، أم أن الواقع هو الذي فرض عليهم الخروج الى الشارع؟ بعيداً عن العاصمة لم تكن هناك ولاية استثناءً، فالمظاهرات اجتاحتها جميعاً، واختلفت المسببات التي دفعت المواطنين للخروج إلى الشارع، ومعظمها انحصرت في المطالبة بتحسين الخدمات كالمياه والكهرباء والصحة، عطفاً على المناداة بتخفيف أعباء المعيشية، وجاءت تظاهرات شريحة طلاب الجامعات أيضاً متشابهة المعالم مع المظاهرات الأخرى ولكنها انحصرت في المطالبة بترقية الخدمات بالجامعات والداخليات وتخفيف او الغاء الرسوم او احتجاجاً على نتائج الانتخابات بالجامعات، وهناك تظاهرات فئوية كتلك التي سيرها المزارعون في الجزيرة ومتضررو س? مروي وعمال الشحن بنيالا والمطالبون بمحاربة الفساد بحلفاالجديدة، وتلك المنددة بممارسات خاطئة لجهات رسمية بالقضارف والرهد والفاشر، او تلك التي سيرها مواطنو بربر واصحاب المركبات في دنقلا، وجميعها تطالب بالاصلاح ومعالجة قضايا محددة تهم هذه الشرائح ، وبحسب مراقبين فإن اللافت في هذه المظاهرات السلمية هو عدم ترديد المتظاهرين لشعار الربيع العربي «الشعب يريد إسقاط النظام» باستثناء عدد من التظاهرات في كسلا وثلاث مدن أخرى، وهو الأمر الذي تباينت حوله الآراء، حيث وصفه البعض بذكاء من المتظاهرين لعلمهم المسبق بحساسية ح?ومة المؤتمر الوطني تجاه هذا الشعار، فيما يشير محللون إلى أن هذا الأمر يؤكد عفوية وسلمية التظاهرات، فيما يذهب البعض ناحية التأكيد على أن المواطنين باتوا غير مكترثين بمن يحكم، بل ينحصر جل همهم في تحسين أوضاعهم المعيشية والخدمية. ومن أبرز التظاهرات التي خرجت هذا العام خروج سكان أحياء ود مدني خاصة حيي الدباغة وود أزرق للشارع بسبب انقطاع المياه لثلاثة ايام، وبولاية الجزيرة التي شهدت أعلى معدل للتظاهرات شارك مئات الطلاب من جامعة الجزيرة في مظاهرة خرجت تهتف ضد الحكومة، بسبب ارتفاع الأسعار. وأشار شهود عيان إلى أن الطلاب المعارضين للحكومة نظموا ندوات سياسية في مركز الجامعة وخرجوا في مظاهرات لكن السلطات تصدت لها، وفي ذات الولاية التي كانت سلة غذاء السودان خرج عدد من العاملين المفصولين من إدارة الحفريات بود مدني في تظاهرة وطالبوا بالإ?راع في تصفية مستحقاتهم وتسليمها لهم، وحل قضاياهم المرفوعة أمام المحاكم ضد المؤسسة الحكومية التي تمت تصفيتها والاستغناء عن خدمات العاملين فيها، واشتكوا من المعاملة القاسية بإخراجهم من منازل المؤسسات التي كانوا يسكنون فيها. وفي منطقة فداسي أغلق المواطنون الطريق القومي «مدني الخرطوم»، وطالبوا بوضع معالجة للحوادث المرورية التي ظلت تتكرر في المنطقة. وخرجت المظاهرة من المحكمة وانضم إليها بعض العاملين والطلاب والمواطنون قبل أن تحتويها الشرطة، إلا أن انتشار الخبر سريعاً أدى لإغلاق معظم المحال التجارية بسوق ود مد?ي لفترة وجيزة، فيما غادر سائقو المركبات العامة المواقف، كما خرج ملاك مشروع الجزيرة في تظاهرة أيضاً هتفت ضد القانون الجديد، وأيضاً شهدت مدينة الكاملين تظاهرة. كما شهدت ولايات اخرى مثل كسلا مظاهرات، ابرزها بحلفاالجديدة التي تظاهر مواطنوها اكثر من خمس مرات ضد وزير التخطيط بالولاية، واخيرا بسبب وفاة امرأة خلال اجراء عملية جراحية، واللافت أن شباب مدينة حلفا رفعوا شعار «الشعب يريد تغيير الوزير»، فيما هتف طلاب جامعة كسلا ضد النظام على اثر دهس عربة لأربعة طلاب وتدخلت الشرطة، وكان الطلاب قد خرجوا مطالبين بتحسين الخدمات بالجامعة والداخليات، وهي ذات الأحداث التي شهدتها جامعة دنقلا. وفي سنار احتشد المواطنون بعدد من أحياء المدينة على رأسها حيَّا تكتوك والقلعة احتجاجاً على انعدام المياه لفترات طويلة، وهتفوا «الشعب يريد موية شراب»، وأطرف مظاهرة سلمية كانت في سنار أيضاً وقادتها نساء مربع «21» وطالبن بتوفير المياه والكهرباء ولم تتدخل الشرطة لفضها اسوة بالتظاهرات الاخرى. أما ولاية البحر الأحمر فقد شهدت عدداً من المظاهرات التي نظمها طلاب الجامعة لاسباب مختلفة، منها الاحتجاج على نتائج الانتخابات وبسبب قضية ابناء جنوبطوكر، كما احتجوا على اوضاع الداخليات، وذهبوا بعيدا باغلاق الطريق الرئيسي لاسماع صوتهم. وشهدت جامعات الدلنج ونيالا والفاشر عدة تظاهرات، وشارك طلاب الثانويات زملاءهم في الجامعات التظاهر احداث مشابهة ردد في بعضها متظاهرون شعار «إسقاط النظام»، وفي دارفور نفسها شهدت معسكرات النازحين عدداً من التظاهرات ابرزها في زالنجي ومعسكر «كلمة». وفي ولاية نهر النيل خرج مواطنو العبيدية احتجاجا على ما سموه «تغول محلية بربر على ايرادات المنطقة»، وفي عطبرة خرجت نساء احد الاحياء وهن يحملن الفوانيس نهارا احتجاجا على انقطاع الكهرباء المتواصل. وفي لاية جنوب كردفان تعتبر مدن بابنوسة والمجلد والفولة والميرم والدبب، من اكثر مدن الولايات التي شهدت تظاهرات ضد الدولة، وايضا مختلفة الدواعي خاصة الفولة التي طالب شبابها بتغيير النظام. وهذه نماذح محدودة للتظاهرات السلمية التي كان هدف منظموها اسماع صوتهم للدولة، ولم تسجل تظاهرة مسلحة او عنيفة، وهو الامر الذي ينظر اليه مراقبون بانه يؤكد سلمية مقاصدها رغم تصدي الشرطة لها. وبغض النظر عن الأسباب والدوافع التي حركت المواطنين للخروج الى الشارع، يبرز السؤال المهم وهو كيف تنظر الدولة إلى هذه الممارسة؟ وهل تعتبرها عملاً تقف من خلفه اجندة المعارضة؟ يجيب على ذلك رئيس المؤتمر الوطني بولاية البحر الاحمر محمد طاهر احمد حسين، مشيراً إلى ان الدولة اعترفت بأن هناك ضائقة معيشية معروفة الاسباب، وأن هناك الكثير من الخدمات تحتاج لترقية وتطوير من أجل راحة المواطن، ويؤكد أن قوى المعارضة تسعى لاخراج المواطنين الى الشارع ويشير الى انها عجزت، واصفاً المظاهرات التي خرجت بأنها محدودة وخلفها احزاب، ومبيناً أن الشعب واعٍ ويعرف أين مصلحته، ويدرك أن حل كل القضايا بيد المؤتمر الوطني ولا يريد حكومة جديدة، مؤكداً على قدرة حزبه على تجاوز المرحلة الحالية التي تمر بها البلاد. وحديث محمد طاهر وجد رفضاً عن أمين الأمانة السياسية للمؤتمر الشعبي بولاية كسلا الذي أكد أن المواطنين الذين خرجوا الى الشارع في مختلف الولايات يمارسون حقاً دستورياً، وأن تردي الأوضاع المعيشية هو الذي دفعهم للتظاهر وليس الاحزاب، وقال إن الحكومة ظلت تمارس سياسة دفن الرؤوس في الرمال، وتتهرب عن مواجهة الحقيقة التي تؤكد أنها فشلت في ادراة البلاد، وطالب الدولة بالانصات الى أصوات المواطنين وطلاب الجامعات وليس كبتها. المحلل السياسي والأستاذ الجامعي د. محمد المعتصم أحمد موسى ينظر إلى الأمر من زاوية مختلفة، ويقول: «ليس بالضرورة أن تكون الأوضاع المعيشية وقصور الدولة في الخدمات وراء تظاهر المواطنين، كما أنه ليس بالضرورة أن تكون هناك أجندة حزبية معارضة وراء التظاهرات» ويضيف: «يجب أن يفكر الجميع حكومةً ومعارضةً في أن الشعب ينادي بأبسط مقومات الحياة التي باتت عزيزة وبعيدة المنال، ويجب عدم النظر إلى ذلك من خلال أنه عمل ضد الحكومة او لصالح المعارضة، بل يجب التفكير في المخرج، وذلك حتى لا تأخذ التظاهرات وتردي الأوضاع شكل الأزمة، ?يجب أن تستبق المعارضة والحكومة هذه الأزمة، وذلك لأن ما يحدث صرخة من قبل المواطن وهكذا يجب أن تفسر الأمور، حتى لا تصل إلى أزمة حقيقية وتتفاقم، وعلى المعارضة ألا تعتبر هذه القضايا والتظاهرات صهوة جواد تقلها إلى السلطة، وعلى الجميع الانتباه وعدم استغلال تململ الشعب لتصفية الحسابات، وأن تكون هناك استجابة لصوت المواطن».