كنا قبل سياسة التحرير الاقتصادي وقبل اكتشاف البترول ننعم بدعم الدولة للخدمات، فكنا نتمتع بمجانية التعليم، ومع المجانية فهناك إعاشة للطلاب في الداخليات، فكانت مدارسنا الأولية والوسطى والثانوية تتميز بداخلياتها النظيفة والمنظمة ووجباتها الدسمة، أما جامعة الخرطوم فهى تتمتع بخدمات خمس نجوم تضاهى أفخم الفنادق. وقد درست المرحلة الأولية بمدرسة هيا الأولية «الأساس الآن»، وكان طلاب الداخلية تتوفر لهم عنابر فى مستوى جيد، وكان فطورهم الكبدة والبيض والساردين وغيرها من المطايب والعلاج مجاناً، وفى نهاية الأسبوع يعطى كل ?الب ما يكفى أهله لمدة أسبوع من الدقيق والصابون والعدس والأرز والزيت.. وهذا نظام أنشاه الانجليز لتشجيع التعليم فى شرق السودان، والغريب أن حكامنا الوطنيين قاموا بإلغاء هذا النظام !! وقد ذكر الدكتور معتصم عبد الرحيم وكيل وزارة التربية والتعليم فى لقاء تلفزيوني، أن والي البحر الأحمر ايلا هو الذي ابتدع هذا النظام!! وفى ذلك الزمن الجميل كان علاجنا مجانياً، وكانت المستشفيات راقية والأطباء مؤهلين، ولم نعرف بدعة المستوصفات الخاصة، وكل ذلك كان بدعم الدولة التي لم يكن لديها بترول أو ذهب، وجاءت الإنقاذ بذهبها وبترولها وأوقفت دعم الدولة للمواطن في أي مجال، بل أثقلت كاهله بالضرائب والجبايات، وكل ذلك باسم التحرير الاقتصادي، وأصبح في ظل دولة التحرير الاقتصادي التعليم لا يطوله إلا الأغنياء وكذلك العلاج، وأصبح الفاقد التعليمي كبيراً، وصارت الدولة نفسها تستثمر في التعليم والعلاج، فالمستشفيات العامة أصبحت فيها أجنحة استثمارية. والش?اعة التي علقت فيها الإنقاذ كل هذه الموبقات هي سياسة التحرير الاقتصادي. وسياسة التحرير الاقتصادي حتى في الدول التي تجذرت فيها الرأسمالية وأصبحت ذات أنياب لا تُترك على «حل شعرها»، فهناك إجراءات مخففة من غلواء سياسة التحرير الاقتصادي، فقد وصلت أمريكا والدول الأوربية وكل من طبق النظام الرأسمالي إلى أن الرأسمالية إذا تُركت بلا كوابح فستسحق المواطن وتمتص دمه، فكان تدخل الدولة للتخفيف على المواطن وحمل بعض العبء، اما دولة الإنقاذ فقد أعطت الرأسماليين ما لم تعطه لهم أمريكا، فجعلتهم «مثلاً» المحتكرين لاستيراد السلع وهم الذين يحددون أسعارها، فأصبح المواطن المسكين يواجه قوة لا يستطيع ا?وقوف أمامها. والغريب أن الحكومة لم تكتف بعدم التخفيف او الفرجة فقط، بل أثقلت كاهل المواطن البسيط بضرائب وجبايات لا توجد حتى في الدول الرأسمالية، فمثلا النفايات جزء من واجب الدولة، وتوصيل الكهرباء والمياه هي أيضاً كذلك، ولكن فى سوداننا يقوم المواطن بالدفع مقابل جمع النفايات، وبشراء الأعمدة والأسلاك وحتى العداد لتوصيل الكهرباء، ومع ذلك يدفع أجرة شهرية على هذا العداد، كما يقوم بإحضار المواسير لتوصيل المياه، ويدفع اجرة شهرية لخدمات مياه لا تصله ! ودول التحرير الاقتصادي تعرف أن طريق التحرير الاقتصادي الذى اختار?ه يزيد الأغنياء غنىً ويزيد الفقراء فقراً، فبالنسبة للثراء الفاحش عالجته بنظام التدرج الضريبي حسب الدخل حتى تصل الضريبة للأثرياء فى بعض الأحيان إلى 40% من الدخل، وليس هناك إعفاء أو مجاملة بسبب الانتماء للحزب الحاكم أو صلة القربى، فهو نظام صارم ليس فيه أي تساهل، ولديهم مثل يقول «شيئان لا تلعب فيهم الضرائب والتجنيد»، وتشجع الدولة التبرع لأعمال الخير، فمن يتبرع يضمن ذلك في ملفه الضريبي فيتم تخفيف الضريبة عليه، ولكن عندنا يمتنع كثير من الأغنياء عن التبرع لأعمال الخير خوفاً من أن تسمع بهم الضرائب فتحسبها ضدهم، ب?جة ان لديهم أموالاً كثيرة فائضة، فتحرمهم بذلك من الأجر الاخروى وتمنعهم من التخفيف على المعدمين، أما إذا تبرع الغني للحزب الحاكم فيكتب ذلك في ميزان حسناته السياسية ويميزه عن الآخرين ويعفيه من الجمارك والضرائب وربما الزكاة !!! أما بالنسبة للحد من الفقر فقد ابتدعت دول التحرير الاقتصادي سياسة الخدمات الاجتماعية، وهى مؤسسة حكوميه تقوم بدعم الفقراء فتعطى الأسرة حسب عدد أطفالها، فمثلا أسرة عدد أفرادها 4 تعطيها 400 دولار شهرياً عبارة عن كرت تقبله المؤسسات الغذائية ليغطى مصاريف الطعام، وهو يكفى ويفيض، كما تمنح هذ? الأسرة شقة بها مياه وكهرباء مجاناً في أبراج شيدتها الدولة يطلق عليها البروجكتات، وليس هذا فحسب، فالأسرة الفقيرة تعطى كرت Medicaid يغطى علاجهم فى مستشفيات الدولة وعند بعض الاختصاصيين المتعاقدين، أما المواصلات فيمنحون كبوناً يسمح لهم بالترحيل مجاناً عن طريق بصات الحكومة أو مترو الأنفاق، كما تمنح الدولة الأسر الفقيرة ملابس للصيف وأخرى للشتاء في كل سنة، أما التعليم فهو مجاني حتى مرحلة الثانوي، والمدارس الحكومية مشيدة على أحسن طراز، فيأتى بص المدرسة المكيف ليحمل الطالب للمدرسة ويعيده آخر النهار، وهناك في المدر?ة وجبتان دسمتان في الفطور والغداء يستطيع الطالب أن يعيش عليهما، ليس ذلك فحسب، فالمدرسة تفتح مطعمها فى الإجازة المدرسية ليحضر الطلاب الفقراء ليتناولوا الطعام، وما تبقى من الطعام يتم توزيعه على اقرب حي فقير من المدرسة. وفى نظام التحرير الاقتصادي هناك قضاء مستقل وصحف حرة وديمقراطية تسمح بأن يقول المواطن «البغلة في الإبريق».. ديمقراطية وعدالة قامت بمحاكمة بنات بوش وهو الرئيس الأمريكي لأنهن دون ال 18 سنة وقمن بشراء بيرة وهذه مخالفة، وما يجمع من ضرائب ينفق على الخدمات، فينعم المواطن بشوارع مسفلتة ومياه جارية و?قية وخدمات الهاتف والأمن والمستشفيات، ويوجد أمام منزل أي مواطن أمريكي صندوق بوستة، فيصله البريد يومياً مهما كانت الظروف. ما أوردته عبارة عن معايشة لكلا النظامين السوداني والأمريكي، ولا أعتقد أن في العالم نظاماً رفع الدعم الكامل للسلع وأعطى حرية مطلقة للرأسمالية مثلما أعطى نظام الإنقاذ، وليست هناك دولة تركت مواطنها في مواجهة غول تحرير الاقتصاد بلا أي دعم أو سند، ولم تتركه ينعم برحمة الرأسمالية ولا عطف الاشتراكية على المعدمين، فساسته بنظام فريد في نوعه، نظام يعتبر من أكثر جباة الضرائب ومتخصصاً في الجبايات وتنوعها، ومستوى خدماته لمواطنيه يكاد يساوى صفراً في التعليم والصحة والمياه والكهرباء، ويقع عبء كل الخدمات فيه على كاهل المو?طن الضعيف المثقل بأسعار لا ترحم، ولو ترك له الخيار لاختار نظام ما قبل 1989م، حيث هناك دعم الدولة في كل المجالات، وكنا بلا ذهب ولا بترول ولا حروب، فأعيدونا لدولة الدعم بديمقراطيتها ومرحباً بصفوفها. ٭ قاض سابق [email protected]