نذكر السادة القراء أن الثورة التي بدأت مطلع هذا العام وأطلق عليها إعلامياً اسم الربيع العربي، كانت تاريخياً هي الثورة العربية الثانية، فالثورة العربية الأولى انطلقت قبل حوالى مائة سنة متزامنة مع انطلاق الحرب العالمية الأولى بقيادة الشريف حسين شريف مكة، بهدف انفكاك العرب من الخلافة المركزية الإسلامية التي كانت بقيادة تركيا، وسيكون من المفيد للقارئ الاطلاع على كتاب لورنس العرب المسمى «The Seven Pillars of Wisdom» «أعمدة الحكمة السبعة» للتعرف على دور بريطانيا على الخصوص في تشجيع تلك الثورة ودعمها بالذهب والسل?ح حتى تؤتي ثمارها التي كان أهمها ثمرتان: إسقاط الخلافة الإسلامية المركزية في تركيا وإقامة دولة إسرائيل، لأن الوعد بإقامة وطن قومي لليهود كان بعد أربع سنوات من قيام الحرب العالمية الأولى، أي تحديداً بعد انفجار الثورة العربية الأولى، وإن لم يتحقق وجود الدولة اليهودية إلاّ بعد واحد وثلاثين عاماً من ذلك التاريخ. كان الشريف حسين يأمل أن تساعده بريطانيا في توحيد العرب تحت راية واحدة، وأن يصير هو ملكاً على جميع العرب، فكافأته بريطانيا بعد هزيمة تركيا بعونه ومن ورائه كل العرب بأن وضعته في مصحة عقلية، ثم قسَّمت الجزء العربي من الخلافة الإسلامية إلى دول إقليمية وطنية، وبدأت مباشرة في تحقيق هدفها من إقامة دولة لليهود التي أعلنت رسمياً بعد احدى وثلاثين سنة من ذلك الإجراء. وفي كل ذلك والملك حسين كان يحسب أن لورنس البريطاني الذي أطلق عليه اسم لورنس العرب أخاً في العقيدة الإسلامية ونصيراً للأمة العربية، إذ قد كان لورنس يلبس ?لجلباب والعقال ويصلي ويزعم للشريف أنه مسلم!! وفرح العرب فرحاً غير مجد لما انطلق لورنس بدراجة بخارية فانقلبت ودقت عنقه بعد أن دق هو وبلده إسفيناً في جسم الأمة العربية «الثائرة»! ما هو دور الغربيين «الأوربيين والأمريكان» في الثورة الثانية، وهل المعطيات بعد مائة سنة هي هي؟ أرى أن أهم متغيرين في الساحة العربية هما الالتزام الإسلامي السياسي على نطاق واسع في الثورة الثانية، والاهتمام بإقامة دولة مؤسسات على الطريقة الأوروبية، ويشترك في هذا المتغير الإسلاميون والعلمانيون، وجميع ألوان الطيف العربي السياسي. ومع هذين المتغيرين هناك « إفاقة حقيقية في الشارع العربي الثائر ودراية واضحة بالمراد»، مما يجعل الخداع الفج الذي حدث في المرة الماضية يصعب إن لم يستحل تحقيقه، ولا بد أن انفكاك الدول العربية من الاستعمار ثم الاستنارة والتعليم على مدى قرن كامل قد آتى أكله. هناك نقطة جوهرية أخرى، وهي أن تركيا التي كانت هدف الثورة العربية الأولى، هي الآن نصيرة قوية للثورة العربية الثانية. صحيح أن ميزان القوة العسكرية لم يزل في صالح الحلفاء الغربيين، فثورة ليبيا لم تكن لتنجح أو لم تكن لتنجح في الوقت القصير نسبياً الذي نجحت فيه لولا تدخل حلف شمال الأطلسي، ولكانت الخسائر أكبر بكثير. ولن تنجح ثورة سوريا واليمن ما لم يضغط الحلفاء بشكل جاد على الأسد وعلي عبد الله صالح، وقد ساعد الغرب في إنجاح ثورة تونس ومصر برفع غطاء الاعتراف عن بن علي ومبارك، وصحيح أيضاً أن البلاد العربية كلها مازالت متخلفة ومحتاجة للمساعدة الغربية في كل المجالات تقريباً. فأنا أرى أن الغرب سيكسب هذه المرة من الثورة العربية الثانية، ولكنه لن يكسب على راحته كما كسب في المرة الأولى، إذ أنه يوجد في الساحة الآن مفاوض عربي يعرف حقوقه ويعرف أهدافه، وسيعطي الغرب كما أنه سيأخذ منه في نفس الوقت. وسيكسب العرب هذه المرة دولاً جديدة قائمة على الدساتير الواضحة وحقوق المواطنة والتبادل السلمي للسلطة، بعد أن ودعت وإلى الأبد دولة الأمن في تونس، ودولة السمسرة السياسية في مصر، والجماهيرية المتوحشة في ليبيا، والدولة العشائرية في اليمن، ودولة التوريث في سوريا.