وأخيراً وبعد مخاض عسير ، ورغم الاعتراضات التى سادت صفوفه ، قرر الحزب الاتحادى الأصل المشاركة فى الحكومة الموسعة التى يزمع المؤتمر الوطنى تشكيلها فى غضون الساعات القادمة اذا لم يطرأ جديد يعيد عقارب الساعة للوراء . وذلك أمر يجب أن يفكر الناس فيه ملياً ، ويجيبوا على كل الأسئلة التى تطرحها مثل هذه المشاركة وفى هذا الوقت تحديداً . فما صدر من الحزب لا يبين أن هناك برنامجاً سياسياً أو مشروعاً وطنياً تم التوافق عليه بين الحزبين ، وحتى ما صرح به الناطق الرسمى باسم الحزب الاتحادى حول التوافق على برنامج وطنى عاد واحد?من كبار قياديي الحزب الحاكم ونفاه بعد أربع وعشرين ساعة . اذاً كل ما يدور الآن فى الساحة السياسية يشير الى أن الائتلاف القادم بين الاتحادى الأصل والوطنى لا يعدو كونه قسمة للسلطة أو محاصصة غير متوازنة لا تخرج من الاطار الحزبى الى اطار قومى يمكن أن يستبشر به الناس . واذا تحدثنا عن خبايا هذه المحاصصة ، فهناك وزارات صغيرة وكبيرة وكل حزب بالطبع لا يرضى لنفسه الوزارات الصغيرة ، بل يريد أن يستأثر لنفسه بالوزارات الكبيرة فى القطاعات السيادية والاقتصادية ، ويزهد فى القطاعات الخدمية ، وكأن الوزارة ستصبح ملكاً للحزب وليس لخدمة الوطن والمواطن . أقول هذا وأنا أسترجع من الذاكرة مقولة الزعيم الراحل اسماعيل الأزهرى والتى حسم فيها مثل هذا الجدل قبل خمسة واربعين عاماً ، وبالتحديد فى عام 1966 ،وذلك عندما تم الاتفاق بين الحزبين على ائتلاف بينهما على حكومة ائتلافية وكان يومها حزب ال?مة يملك أغلبية نسبية على الحزب الوطنى الاتحادى بالبرلمان ، وكان يريد لنفسه معظم الوزارات السيادية والاقتصادية ، ولكن الاتحاديين تذمروا من هذا الأمر وتبرموا من الوزارات الخدمية التى اقترحها عليهم حزب الأمة ، فأجابهم الأزهرى اجابة ناجعة وحكيمة وهو يقول : « الوزارة هى الوزارة ... والوزير الصغير يحول الوزارة الكبيرة الى وزارة صغيرة ، بينما الوزير الكبير يجعل من الوزارة الصغيرة وزارة كبيرة » . واذا كان هذا هو رأى الحزب الاتحادى قبل نصف قرن فاننى أستغرب وأتعجب أن يزهد ويرفض الآن أى وزارة من الوزارات طالما لديه ر?ال كبار يستطيعون أن يصنعوا من الوزارات الصغيرة وزارات كبيرة ، اللهم الا ان كان يخشى فى غيبة البرنامج أن يُبتلع وزراؤه بواسطة نفوذ الحزب الحاكم وامساكه بمفاصل السلطة ومؤسسات الدولة . أما اذا لم يكن لديه مثل هؤلاء الرجال وفشل فى فرض برنامج وطنى يؤطر لهذه الشراكة فعدم المشاركة هو الموقف السليم ، حتى لا تصبح هذه المشاركة خصماً على تاريخ حزب الحركة الوطنية الأول والأعرق . وما يدور من حديث هنا وهمس هناك لا يجيب على سؤال ولا يطمئن مشفقاً على الحزب ، فقد رشح أنه طالب بثمانية مناصب سفراء ، ولو صدق هذا الأمر فهو وبال آخر على الخدمة المدنية التى تشكو التسييس ، فالعمل الدبلوماسى هو جزء من الخدمة المدنية التى نرجو لها الاصلاح والحيدة ، وتسييس هذا العمل واخضاعه لقسمة المحاصصة الحزبية هو أمر خاطىء ، بل يناقض ويناهض تاريخ الحزب نفسه ، فعندما كان الحزب الاتحادى ينشط فى المعارضة على ايام التجمع المعارض كان يدين ممارسات المؤتمر الوطنى فى هذا الشأن ويتهمه بأنه عمل على تسييس الخدمة الم?نية، وانه يريد ان يحول بالاجراءات التي يتخذها بشأن مؤسسات الدولة الى دولة الحزب، وكان يطالب وهو يترأس التجمع الوطنى المعارض بأن تظل الخدمة المدنية ذات طابع قومى يستوعب كل السودانيين ، ولكنه الآن ينتكس عما كان يدعو اليه ، وأخشى اذا ما صارت الامور على هذا المنوال أن يطالب الحزب الاتحادي الاصل بمفهومه الجديد الذي يعتبر انتكاسة على ماضيه التليد بمناصب فى القضاء والشرطة والجيش والأمن ، وهى مؤسسات قومية لا بد أن تستعيد قوميتها وتبقى بعيداً عن المحاصصات الحزبية . وهناك أخبار تتحدث عن وفود من الولايات والأقاليم?جاءت الى رئاسة الحزب تعترض على عدم المشاركة لأنهم يطلبون الخدمات ، وهذا لعمرى من الأمراض الخطيرة التى أصابت العمل السياسى وذلك بأن توزع الخدمات والحقوق على الأسس الحزبية وليس على أساس المواطنة ، وهذا تكريس لدولة الحزب وليس دولة الوطن . وليس غريباً أن أقول مثل هذا الكلام رغم أننى ظللت من أكثر الناس دعوة للوفاق الوطني والمشاركة ، لكن الذى كنت أعنيه أن تتوافق كل القوى السياسية المؤثرة بالبلاد على مبادىء قومية ترتفع بهم من غلواء الحزبية الضيقة ونعراتها الى مصاف الوطنية والتسامح والتوافق على مجابهة التحديات التى يخوضها الوطن . والمشاركة التى كنت أقصدها هى الشراكة الكاملة والأصيلة فى الحكم بجميع مستوياته ولكل الفرقاء على أساس برنامج «وطنى قومى شامل » ، وليس وفق ترضيات حزبية ضيقة وقصيرة الأجل وقاصرة ومنعدمة الأهداف . اننى أدعو مجدداً للمشارك? وفق برنامج «انقاذ وطنى حقيقى وعاجل » تتوافق عليه جميع الأحزاب الوطنية وليس الاتحادى والوطنى فقط ، من أجل انتشال السودان من هذه الهاوية العميقة التى تردى فيها ، وأن يتم من خلال هذا البرنامج استعادة قومية وحيدة الخدمة المدنية وغيرها من المؤسسات القومية ، وتطويرها لتنفيذ هذا البرنامج المرتقب . ولعله من المناسب هنا أن نذكر تلك الحادثة العميقة والمؤثرة التى حدثت فى عهد الديمقراطية الثانية فى الستينات حين كان السيد الشريف حسين الهندى وزيراً لوزارة الحكومات المحلية ، وكان المغفور له علي حسن عبد الله الملقب ? «شيخ الاداريين » وكيلاً للوزارة ، يومها أقبل على الوكيل وفد من الحزب الاتحادى فاستقبلهم أحسن استقبال ، ولكن حين طالبوا بالخدمات بحسبان انتماء وزيرهم وانتمائهم الحزبى قال لهم وبحدة لم ترضهم: « نحن نقدم الخدمات لكل السودانيين وليس للاتحاديين دون غيرهم » ، عندها خرجوا من عنده غاضبين وقرروا أن يستدعوا الوكيل ليحاسبوه بالبرلمان ، ولكن تدخل الشريف حسين وقال لرئيس البرلمان وقتها الدكتور مبارك الفاضل شداد : « ان وكيل الوزارة على حق ، وأن الخدمات ينبغى أن تقدم على أساس قومى وعلى أساس المواطنة وليس على أساس حزب? حتى وان كانت الوزارة من نصيب الحزب » . اننى أذكر مثل هذه القصص لأستشهد بها على الحاضر الذى يقول ان الممارسة السياسية تتراجع فى بلادنا كل يوم الى الوراء ، وهو أمر ضد طبيعة الأشياء التى تقتضى التطور وليس التراجع والتدهور ، ومع ذلك فاننى آمل أن يستدرك الحزب الاتحادى مثل هذه الأخطاء ويعمل على معالجتها قبل أن تصبح أمراً واقعاً ، وذلك بأن يتمسك بقومية الخدمة المدنية ، وقبل هذا أن ينقذ نفسه وتاريخه بالمشاركة عبر برنامج وطنى واضح ومحدد المعالم يفضى آخر الأمر الى استقطاب واصطفاف كل القوى السياسية الوطنية فى وفاق راشد ووطنى يُخرج البلاد من هذا المأزق.?وبعد اود ان اوضح في ختام هذا الحديث انني لست ضد المشاركة من حيث المبدأ، ولكن المشاركة التي اعنيها ويتطلع اليها كل الناس هي التي تقوم من اجل مصلحة السودان وخدمة كافة مواطنيه، ودون تمييز وليس خدمة من يجلس على دست الحكم وانصاره ومؤيديه، اما ما ينفى من الناس فليس امامه سوى الضياع، أو التمرد ضد الدولة وفي ذلك خطر عظيم، وتجربة انفصال الجنوب ليست ببعيدة ان كنتم لا تتذكرون!!.