هذه الايام كل شيء في جنوب السودان حقيقة كانت ام خيالاً لا بد ان يثير المشاعر، ويمزق الفؤاد، ويحرق الحشا، ثم يبكي العين. لا بد ان كل من وطأت قدماه أرض الجنوب الحبيبة سيصيبه إضطراب المشاعر هذا، ففي هدأة الليل واياقاعات الطبول الجنوبية التي تتسلل من أكواخ جوبا الشعبية، وعند رابعة النهار حينما تضج الحركة والحياة، ويختلط همس هذه المجموعة بصراخ تلك، وفي الدواوين والمتاجر والمطاعم، ومواقف الحافلات عندما تلتقي بالقسمات والوجوه الجنوبية التي يطليها الفرح والبشاشة وحيث تسود عربية سودانية طاغية رغم كلمة انجليزية من هنا، وعبارة استوائية أو نيلية من هناك.. في هذا المسرح الذي يضج بالحيوية، ويستقبلك انت «السودان الشمالي» بالبشاشة والوضاءة ستكشف حجم الكارثة.. سنكشف ان بلد المليون ميل قد شطر بسكاكين اللا مسؤولية الى بلدين.. ستكشف انك بلدك المحبوب قد انشطر وكأنما شخصا واحداً قد شقه شقاً الى نصفين مات كلاهما بابعاد نظيره عنه.. ستكتشف ان فردوسك الجنوبي قد ضاع من بين يديك!! لست ادري كيف صحوت من غفوتي على طائرة الخطوط الاثيوبية القادمة نحو جوبا، واطللت من نافذة الطائرة ونحن نقترب من الهبوط في جوبا لارى ارضاً واسعة، بسهول ممتدة، شديدة الخضرة وقفزت على خيالي حقيقة ان هذه الارض الجميلة الواسعة الممتدة لم تكن لي، وان شعبها قد كتب عليه رغماً عني وعنه ان يكون غريباً على، وان أكون أجنبياً بالنسبة اليه. إن مأساة تقسيم السودان وضياع الجنوب أكبر بكثير من البكاء والنحيب.. وهي بالاولى اكبر من أكاذيب السياسيين ونفاقهم كما أنها أكبر بكثير من هذا البرود الذي أصاب السودانيين وجعلهم مثل الخراف أمام جزار بشع ينتظر كل منهم دوره في الذبح بعد أخيه. لا أشك قط أن الجنوبيين دُفعوا دفعاً للانفصال وتكوين دولتهم لقد وقعنا معهم اتفاقاً في نيفاشا واعطيناهم على الورق وبشهادة كل العالم ما يريدون، وما يتمنون، اعطيناهم حتى ما لم يكن به يحلمون.. أعطيناهم كل ذلك بطيب خاطر، أو بمكر لست ادري ولكن عندما جاء تنفيذ ما وقعنا عليه ومهرناه بدأنا نلعب معهم لعبة القط والفأر: طلبوا وزارة النفط حسب الاتفاق فزاحمناهم عليها بالحراب والمناكب وقلنا بينهم وبينها «الموت اللحمر» واستطال بسبب الجدال على هذه الوزارة تشكيل الحكومة شهوراً وشهوراً، ولست ادري وقد كان الاتفاق في مبتداه لو اعطيناهم النفط وانابيبه وآباره طالما ان الحكومة المركزية واحدة وان كل الموارد تتجمع في خزينة واحدة اسمها وزارة المالية. ماذا لو اعطيناهم النفط والمالية والخارجية هل سيدسون هذه الوزارات في الجنوب أم سيديرونها من شارع النيل في الخرطوم.. كانت أزمة وزارة النفط اشارة تنبه الجنوبيين الذين اقبلوا على اتفاق السلام بقلوب مفتوحة ان ما يسمونه بغدر «الجلابة والماندكورو» لم يتغير بل زاد ونما واستطال. وأطل بعد ذلك عدم الثقة في حساب عائدات النفط، وما لبث عدم الثقة ينمو ويزداد في كل شيء حتى غدا مارداً. وكانت كل أوراق المبادرة لنزع هذه الفتائل المتعددة في ايدي الحكومة، باعتبار ان المؤتمر الوطني هو الشريك الاكبر والاقوى، وانه كحزب حاكم الاولى بتقديم التنازلات، وطمأنة الجنوبيين العائدين من الغابة بمزاج متوتر، وخبرة أقل وفوق هذا كله انه المفترض ان يكون الحامي لبيعة السودان الموحد من التقسيم والانشطار ولكن من المؤسف ان أحداً من المؤتمر الوطني لم يرتفع لمستوى المسؤولية.. ولا أعتقد أن المؤتمر الوطني له إحساس حتى الآن بحجم خسارة تقسيم السودان بدليل ان هناك من يعد انفصال الجنوب انجازاً أو نصراً تذبح له الذبائح، وتسير له المسيرات المنتشية!! ومن المؤسف ان يستمر مسلسل تخريب العلاقة بين جزئي السودان حتى بعد الانفصال فطالما ان الجنوب قد ذهب لحاله كان الأولى بحكومة السودان أن تعمل على تأسيس علاقة متميزة مع الاخوة الذين أضحوا بفعل فاعل ألد ّ أعداء.. ولكن مما يؤسف ان السودان يعمر ويرعى علاقات متميزة مع اثيوبيا واريتريا، ومصر وليبيا، وتشاد، وافريقيا الوسطى وفي المقابل يسمح لعلاقاته ان تزداد توتراً كل يوم مع جنوبه الذي كان بالأمس القريب جزءاً منه.. ومن المحزن أن تطل دول مثل اريتريا وكينيا للتوسط بين شطري هذا الوطن المقسم.. ومن المؤسف والمحزن ايضاً ان يصل الامر بحكومة الجنوب ان تتهم اخوانها بسرقة نفطها!! حتى الآن تنتظم حركة وتجارة الحدود بين السودان وكل جيرانه لكنها تتوقف بصورة صارمة ومهينة مع الجنوب.. حتى الآن تتناغم العبارات الدبلوماسية بين حكومة السودان وجميع جيرانها عربا وعجما بمن فيهم الذين تهدد حكوماتهم بالقبض على رئيس دولته ولكن لغة حكومتنا تجاه الجنوب تختار أشد الكلمات فظاظة وعدائية وتهديداً. هذه بعض الحقائق التي قتلت الوحدة ووأدتها ومرغت جسمها الطري بالتراب مثلما قال الشاعر نزار قباني، حتى الآن ومن خلال جولتي في جوباوملكال ولقاءاتي الواسعة هناك فإن الجنوبيين أكثر مودة للشمال، وأقرب مشاعراً وشعوراً.. بينما بعض بني جلدتنا في الشمال أكثر عداءً وألد خصومة خاصة بعض الاطراف الرسمية الحكومية. في مطار ملكال طلب منا موظف الخطوط ان نتوجه انا ورفيقي الحلفاوي أن ندلف الى احد المكاتب الرسمية المختصة بالهجرة.. بادرنا «لوال» وهو الضابط الموجود داخل المكتب.. جايين هنا ليه؟ أجبته بغضب وانفعال: ليه ما نجي، نحن سودانيين وملكال سودانية كنت متوترا من هذا السؤال.. لكن «لوال» فاجأني اعتذر فوراً قال لي بلكنة جنوبية: «لا معليش أنا ما أقصد كده.. أنا أقصد ليه تدخلون هذا المكتب.. هذا مكتب لإجراءات الاجانب وانتم جوازاتكم سودانية.. أنتم سودانيون وهذا بلدكم».. ودون ان اتمالك نفسي طارت دمعات من عيني.. كيف ينظر لنا الجنوبيون، وكيف ننظر إليهم؟!