وعبارة الخبز، في هذه المقولة المشهورة، لا تؤخذ بمعناها الحرفي وانما تعني مطايب الحياة بصفة عامة ولكني أضفت للعبارة كلمة «دائماً» إذ حسب رأيي ان تلك المطايب يمكن ان يحيا بها الانسان ويكتفي بها لفترة تختلف طولاً وقصراً بحسب احوال واختلاف الظروف لكل شعب من شعوب الله، ولكن من المقطوع به ان الاكتفاء بها، على اهميته، امده محدود. وما يهمنا في هذا الموضوع ان حال الدولة، في هذه المقولة، يحاكي حال العائلة الواحدة في كل أوجهها. فسلطة الأب مماثلة لسلطة الدولة والمسؤوليات داخلها موزعة بين افرادها مع ما يتناسب مع اعمارهم ووعيهم ولكن السلطة بأكملها في يد ربها.. وميزانية الأسرة تحاكي في كل مجالاتها ميزانية الدولة. ولا سبيل لحياة هانئة، خالية من المشاكل العائلية، الا اذا فاق دخل ربها متطلبات أسرته والتي تحددها ظروفها الخاصة او بالاقل تعادل الدخل والمتطلبات. وعندئذ يتوافر الاستقرار وتطمئن الاسرة في مسيرتها. ولكن مهما كان ذلك الاستقرار ومهما بلغ رغد العيش فيها فان سلطة ربها تبدأ في التناقص التدريجي نظراً لبلوغ ابنائه وبناته السن التي تمكنهم من ادارة شؤونهم الخاصة استقلالاً عن الأب وعن الاسرة الكبيرة، مع بقاء الالتزامات الادبية فحسب. وهذا يعني ان رغد العيش ليس مدعاة لاستمرار السلطة الابوية الى ما لا نهاية، اذ ليس بالخبز وحده يحيا الانسان دائماً. وإعمال ذلك على الدولة، فإن شعبها حتى يحيا حياة كريمة لا بد ان يضع في مفهومه مقدرات الدولة المادية وتتحدد مطالبه الضرورية منها وغيرالضرورية وفقا لذلك التحديد. وتلك المعرفة لا تتوقف عند حد الكم دائما وانما تتعداه بحيث تشمل معرفة أوجه الانفاق المبرر من الخبراء المحايدين «أكرر عبارة المحايدين». وحكوماتنا المختلفة تسلمت السودان في حالة اقتصادية واجتماعية معينة بدءاً بحكومة الأزهري رحمه الله، تسلمها بصحة جيدة، نظام وعلم وصحة وأمانة مما لا يحتاج معه الامر الى شرح، ولا ادل على ذلك الا ما يطالعنا عليه التلفاز في اول كل سنة حيث نرى الجمهور صاحب الجلاليب والعمم البيضاء، والوجوه النيرة والملابس المهندمة الا ان الظروف شاءت إلا تمهلهم الا قليلاً. ثم جاء عبود رحمه الله وكان حاله يحاكي حال جميع السودانيين آنذاك انضباطاً وقناعة «أكرر قناعة». ولا أدل على ذلك من الانضباط الا ما يحاكي عنه انه عندما اخبر بنبأ مرض احد معارفه حيث هم بالذهاب لمعاودته الا انه نظر الى ساعته ووجدها شارفت الثانية والنصف فصدرت منه عبارة عفوية «يا الله المستشفى قفلت الآن».. سبحان الله! ولا حول ولا قوة الا بالله! ليس هذا فحسب لكن كانت الهيئات كلها على شاكلته. وليس صحيحاً ما جاء في احدى المقالات ان الرئيس عبود قد رفض ادخال ابنه كلية الطب جامعة الخرطوم لعدم احرازه الدرجة المؤهلة اذ حسب معلوماتي ان الرفض قد جاء من مجلس الجامعه نفسه. وسواء أكان هذا أو ذاك فإن كل هذا كان من علامات الصحة الجيدة. وفي أيامه لم يعانِ السودان شظف العيش بل كانت الحياة هانئة رخية والدخول الفردية كانت رغم ضآلتها الا انها كانت مغطية للمطالب لا الضرورية منها فحسب بل احياناً الكمالية ايضاً ومع ذلك ليس بالخبز وحده يحيا الانسان دائماً.. فكانت اكتوبر، لا لشظف العيش ولكن للحرية فحسب. ثم جاء فارسنا وحارسنا رحمه الله وصال وجال وكان في اول مجيئه مراعياً وملتفتاً للضرورات وكان له حضور شخصي في كل اللجان من الكهرباء الى الفحم، وقناعة مفرطة لا ادل عليها الا ما يحاكي عنه حيث دلف الى القصر ووجد اصدقاءه من افراد مجلس الثورة يتناولون طعام «المرطبات» فعاتبهم وانتزع جنيها من كل لاحضار فول «ابو العباس» ولكن لم يمهل كثيراً للاستمرارية على ذلك النهج حيث فوجئ بالانقلاب المشهور في عام 1791م وانقلب بعده حال نميري فاصبح نمراً شرشاً لا تعصى له كلمة ولا يخالفه رأي وترك نميري احوال الشعب المعيشية لغيره من الوزراء واولى اهتمامه لكبريات المهام!! وتغيرت البطانة وكان ما كان!! وانتفض الشعب لاهمال ضرورياته وعادت الديمقراطية. الا ان تلك الديمقراطية بدورها لم تمهل كثيراً حيث جاءتنا الانقاذ وتمددت لاكثر من عقدين ولا زالت متمددة وتغير شكل الحكومة بطريقة لافتة ومحيرة واصبحت هناك ولايات عدداً بدلاً من السبع مديريات المعروفة واصبح لدينا حكومات ومجالس ووزارات مركزية وحكومات اقليمية ومجالسها الوزارية وتغير الحال من وكيل حزبي ووكيل فني مصلحي لكل وزارة من الوزارات المحصورة عدداً آنذاك ومن مدير ومفتش ومامور لكل من المديريات السبع الى جيش من الوزراء لكل تلك الوزارات التي يصعب حصرها ويثور السؤال هل نحن حقاً في حاجة الى ذلك الجيش العرمرم من الوزراء ام ان ذلك ليس الا من مقومات التمكين فحسب. والسؤال العريض الذي يفرض نفسه هل كان التمكين في يوم من الايام وسيلة ابدية للبقاء؟ لو كان ذلك كذلك لبقى القذافي الى ابد الابدين ناهيك من هم دونه في القوة والجبروت وهل نحن، بحالتنا الاقتصادية الراهنة بحاجة الى هذه المشاركة الموسعة والمرهقة لميزانيتنا على ضآلتها ارهاقاً شديداً؟ والواقع كل ما يجري في ذلك الشأن ما هو الا عرضة خارج الحلبة. فالمعلوم ان قسطاً غير يسير من الميزانية قد ذهب مع الريح، ونحن غير آسفين عليه الا ان ما تبقى من ذلك الدخل يفترض انصرافه الى ضرورياتنا.. وان وفقنا في ذلك فان هذا فضل من الله ومدعاة لبقاء الحال لمدد مريحة تمكن القائمين على الامر من اتخاذ الوسائل السليمة لارجاع الامانة الى اصحابها عن طريق الانتخابات النزيهة واقتصار الصرف فيما تبقى من الميزانية في لزوم ما يلزم فحسب مع المراقبة والمحاسبة لكل من امتدت يده للمال العام ،واسوتنا وقدوتنا رسولنا الكريم صلوات الله عليه وسلامه حيث قال مشيراً الى الزهراء «والله ان سرقت هذه لقطعت يدها». وعوداً الى عنوان المقال فإن الشعب بعد ان ينعم بتوفير الضروريات وينغمر في الكماليات سوف يلتفت الى المزيد من المطالب وفي مقدمتها الحريات إعمالاً للمبدأ.. «ليس بالخبز وحده يحيا الانسان دائما» أليس أبدياً ان يكون ذلك بيدي لا بيد عمرو؟.. ترى أصحيح ما قلنا؟