مدخل «في أصول شخصيته الادبية وجهده النقدي»: ولد حمزة الملك طمبل بمدينة أسوان عام 1899م لأب سوداني يتصل نسبه بملوك أرقو وام مصرية، وقد نشأ بأسوان وفيها تلقى تعليمه بالكتّاب، حيث حفظ شيئاً من القرآن الكريم، والتحق بمدرسة المواساة الابتدائية ولكنه لم يكمل تعليمه بها، بل اتجه الى الاطلاع الحر والتثقيف الذاتي، واقبل بشغف على دواوين الشعر وكتب الادب، ثم قدم الى السودان بعد محاولات فاشلة في الاعمال التجارية.. واستطاع بسعى لدى الحكومة أن يلتحق بمدرسة نواب المآمير.. وقد عل بعد تخرجه فيها عام 1923م، بوظيفة نائب مأمور، وتنقل من ثم بين مراكز عديدة، ولأسباب ليس هذا مجال تفصيلها نُقل عام 1923م لادارة الحدائق بالخرطوم، ثم لم يلبث أن أُحيل الى المعاش في اواخر ذلك العام«1». واذا كان قد اتجه ادبيا صوب رواد المذهب الجديد في مصر «شكري والعقاد والمازني» فنهل منهم وتأثر بهم على نحو واضح، فإنه آثر من الوجهة السياسية أن يقف مع الانجليز على نحو صريح، فدعا الى معاونة حكومتهم: «إن الحكومة مجدّة لخير البلد ولكنها ككل حكومة لا يمكن أن يكون عملها لهذا الخير تاماً شاملاً، إلا إذا عملنا معها ووضعنا يدنا في يدها، قياماً بواجبنا بل بما فرضه الله علينا في كل ما يعود علينا بالخير، ويد الله فوق ايدي الجميع» «2»، وامتدح الورد اللّنبي عند زيارته للسودان عام 1922م، بقصيدة عدّ فيها فتحه القدس من مآثره الجليلة: فاتح القدس قد تغمّدك الله بروح من المهيمن قدسي وطالب فيها ملحّاً ببقاء الاستعمار الانجليزي في السودان: وأقيموا فنحن أحوج منكم ٭٭ ليد تعمر البلاد ورأس وادفعونا إلى الأمام فأنتم ٭٭ أقدر العالمين من غير لبس عشت يا لورد للبلاد وعاشت ٭٭ أمة مُتعت بأفخم كرسي«3» ونراه يصفهم بأنهم الكرام رعاة الزمام في مرثية والده «الملك طنبل حمد»: بيتك السادر في حرز حريز ٭٭ بات يرعاه كرام الانجليز قد أجازونا كما كنت تجيز ٭٭ لم تزل أنت على الناس عزيز فرعي الرحمن من يرعى الذمام «4» ويمكن القول استناداً إلى هذا المقطع والى ما عرفناه من وقائع حياته، بأن أهم دوافع هذا الولاء البالغ تتمثّل في ما اتاحه له الانجليز من فرصة الدراسة بمدرسة نواب المآمير، ثم العمل بوظيفة مرموقة بمقاييس تلك الحقبة، إضافة الى رعايتهم لتراث ابيه، ولذلك فما كادوا يتنكرون له من بعد ويفصلونه من الوظيفة التي انعموا عليه بها، حتى تنكر لهم بدوره واتجه الى الكشف عن مساوئهم ومخازي سياستهم الاستعمارية في كتابه «الانجليز في السودان» الذي يشير الدكتور سعد الدين الجيزاوي إلى أنه أعده في عشرة أجراء «5»، ولم يطبع منه سوى الجزء الأول الخاص بصمويل بيكر في خط الاستواء. ومهما يكن الأمر فثمة رابطة وثقى سنقف على أبعادها بعد قليل، بين دعوته إلى القومية في الادب السوداني وانحيازه الى جانب الانجليز في تلك المرحلة.. هذا ولم يصدر حمزة الملك طمبل من الآثار الادبية سوى أثرين شهيرين، هما: 1 الأدب السوداني وما يجب أن يكون عليه «الصادر عام 1928م»، وقد جمع فيه ما نشرته الحضارة من مقالاته بعنوان «الأدب السوداني» وما دار حولها من مساجلات، مع إضافة مقالات يسيرة تناول فيها بالنقد بعض الشعراء الذين اختار سعد ميخائيل شيئاً من شعرهم في كتابه «شعراء السودان»، ومن هنا فهو المصدر الرئيسي لدرس جهده النقدي نظرياً وتطبيقاً.. 2 ديون الطبيعة «الصادر عام 1931م» وهو يضم مجموعة شعره التي يعتبرها المجلى التطبيقي لآرائه التجديدية، عدا قصائد قليلة من محاولاته التقليدية المبكرة، ولهذا فهو يتيح الفرصة للوقوف على وجوه التكامل أو المفارقة بين النظر والتطبيق في دعوته لقومية الادب السوداني، وفي نظراته النقدية بوجه عام. ويمكن القول إن نظرات طمبل التجديدية التي بثها في كتابه «الأدب السوداني وما يجب أن يكون عليه»، تركزت في مجالات ثلاثة: اولها يتعلق بالشعر عامة من حيث مفهومه ووظيفته ومضمونه ومبناه، وثانيها بالشعر التقليدي وشعرائه في السودان، وثالثها بالدعوة الى القومية في الأدب السوداني.. وهو المجال الذي سيقتصر عليه هذا التناول، وذلك وفق تقويم جديد يعيد النظر في أصول هذه الدعوة ومقوماتها النظرية وما اقترن بها من محاولات تطبيقة، وفي مدى تأثيرها في اللاحقين من نقاد وشعراء، ويقتضي ذلك بالضرورة إعادة النظر في بعض الأحكام والتقديرات التي أطلقها باحثون سبقوا إلى تناول هذه الجوانب بوجه أو بآخر في ما صدر لهم من كتب ودراسات. دعوته إلى القومية في الأدب السوداني: ولو قلنا إلى «سودنة الأدب» لكنا أكثر دقة وتحديداً، وذلك لأن تعبير «القومية» لم يرد قط في ما كتبه طمبل في هذا المجال، ومع ذلك فقد آثرنا استخدامه، لا لتواتره على الأقلام فحسب، وانما لأنه يتيح للباحث وضع تلك الدعوة في مهادها الصحيح الذي سنتعرّف عليه وشيكاً، ويمكنه كذلك من الربط بين جهد الناقد الرائد من جهة، والجهود الكثيرة التي تلته في نفس المضمار من جهة أخرى، وذلك لأن النقاد الذين عملوا على بلورة الفكرة وتأصيلها من بعده اتجهوا جميعاً فيما هو معلوم إلى استخدام مصطلح «القومية»، وبذلك فقد اكتسب الذيوع والسيرورة، وغداً بالتالي علماً على هذه الفكرة لدى جمهرة المتأدبين وعند الباحثين والدارسين على حد سواء. 1 /في مهاد الدعوة الفكري: قد يرد على البال أن حمزة الملك طمبل لا بد أن يكون قد تأثر في دعوته هذه بدعوة قومية الأدب المصري التي رفع رأيتها الدكتور محمد حسين هيكل لما بين الدعوتين من توافق زمني ومشابهة واضحة، وهذا جدّ صحيح، بل لربما اتجه الخاطر إلى الدكتور أحمد ضيف الذي كان له فضل السبق في المناداة بأدب تتمثل فيه شخصية مصر وحالتها الفكرية وأوضاعها الاجتماعية «7»، فليس من المستبعد أن يكون ناقدنا قد استقى منه أيضاً، على أنه لا سبيل إلى الزجّ بالشيخ أمين الخولي في هذا المجال كما فعل بعض الدارسين«8» لأن دعوته الى الاقليمية في الادب لم تطرح على نحو واسع الا عند صدور كتابه «الى الادب المصري» عام 1943م، وبذلك فإن تأثيره ينتفي لا بالنسبة لطمبل فحسب، وإنما بالنسبة لجميع دعاة القومية في الأدب السوداني، لأن جهودهم كانت قد بلغت ذروتها القصوى قبل صدور الكتاب المذكور. ومهما يكن الأمر فإن المؤثرات الخارجية التي أشرنا اليها لا يمكن أن تقوم مقام المهاد الفكري المحلي الذي تتصل به دعوة الناقد على نحو مباشر حميم، والذي لم نر من الدارسين السابقين من اهتم بالتعترف عليه، مع انه يمثل الارضية الحقيقية لهذه الدعوة. ذلك لأنها لم تكن على ما نقدِّر سوى تطبيق في جانب من الجوانب التي نوَّه بها حسين شريف في طرحه وتنظيره لفكرة «القومية السودانية» على صفحات الحضارة في عهديها الاول والثاني على السواء «9»، خدمةً لمبدأ «السودان للسودانيين» وهو مبدأ لم يكن يُراد به آنذاك كما تشهد سلسلة مقالات «المسألة السودانية» أكثر من تمكين الانجليز من الانفراد بحكم السودان، لأنهم في ما يقول حسين شريف في بعض مقالات تلك السلسلة «اكفأ من أدار دفة، وساس أمة، واقدر من يخضع الهوى لسلطان الحق، ويوّفق بين منازع السيطرة ومبادئ العدل»«10»، وهو نفس ما قاله فيهم حمزة الملك طمبل لاحقا: «اقدر العالمين من غير لبس» كما جاء في قصيدته التي استقبل بها اللورد اللنبي1922م، وقد مرّ ذكرها قبل قليل. ومن هذا المنطلق السياسي إذن طرح حسين شريف فكرة «القومية السودانية»، فكانت بمثابة غطاء فكري لمبدأ كان مرفوضاً في أوساط الشبيبة المتعلمة، المؤمنة بضرورة التعاون الوثيق في تلك المرحلة بين الحركة الوطنية في السودان والحركة الوطنية في مصر، وقد كان الرجل ذكياً ماهراً في عرضه لهذه الفكرة. ولعله تأثر في ذلك بمنظري القومية المصرية الأوائل من قبيل أحمد لطفي السيد وطه حسين ومن إليهما من كتّاب «الجريدة». ومن هنا فقد التفت إلى أهمية التعبير عنها من خلال الانتاج الادبي، تجسيداً لمعناها وترسيخاً لمفهومها، فهو يقول: «أما الوسائل التي نتذرع بها لإدراك هذه الغاية اي تحقيق القومية السودانية فكثيرة، أهمها الإكثار من الكتابة والخطابة في هذا الموضوع، ومداومة النشر عنه، وتسليط النظم والنثر عليه، وتوجيه أعظم الجهود الادبية اليه» «11» .. وإذا كان قد التفت أيضاً إلى الوسائل الفنية الأخرى من تمثيل وغناء وموسيقى، فمضى ليقول: «إن مقدرة اللغة قاصرة جداً عن اداء المعاني الحقيقية القائمة بكلمة القومية، واستقصاء الفوائد المادية، والادبية المجتمعة فيها، والناتجة عن الاخذ بمبدأها والاستمساك بحبلها والأخذ بروحها، ولذا ترى الامم المتكونة بها تستعين في طريقها اليها وفي شرحها بالتصوير والتمثيل والموسيقى والاناشيد، مما يثبت روحها ويقوي شعورها، ويضرم الحماس للعمل من أجلها «12»، فينبغي أن نذكر أن حمزة الملك طمبل كان ينتوي بدوره تناول هذه الجوانب في اجزاء تالية من كتابه، فقد نوّه بأنه سيتكلم فيه عن الشعر والشعراء «ثم عن باقي فنون الأدب السوداني كالمغنى والتمثيل والموسيقى، وظني أن هذا سيتم في أربعة أجراء» «13»، ويغلب على الظن أنه كان سيتجه لو تيسر له اتمام ما بدأه إلى توسيع نطاق دعوته الى القومية او السودنة لتشمل هذه الفنون أسوة بالأدب، فيعين بذلك على تنفيذ الخطة التي رسمها حسين شريف بحذافيرها. فاذا كان الأمر كذلك فإنه ينبغي علينا أن ننظر إلى دعوة الناقد إلى سودنة الأدب في اطار الدعوة الاشمل الى القومية السودانية المقترنة بمبدأ السودان للسودانيين، وبذلك يتيسر لنا إدراك البعد السياسي الكامن في طياتها، وهو بعد يؤكده ويدلّ عليه ما نعرفه من ولاء طمبل الذي أعلنه في شعره ونثره للانجليز وحكومتهم في السودان. 2/ في معالمها ووجهتها النظرية: لئن تمثلت دعوة طمبل إلى قومية الأدب بداية في العنوان الذي اختاره لمقالاته وهو «الأدب السوداني»، ثم في تركيزه على الربط بين شخصية الأمة وأبدها.. فإن معالمها تتضح بجلاء في مطالبته بأن تكون صورة الادب السوداني «دالة على السودان ومذكرة من يراها به، أعني سودانية بكامل معناها حتى الشلوخ والوشم «41»، كما نراها متضحة بجلاء أكبر في كلماته الهاتفة «نريد أن يكون لنا كيان أدبي عظيم، نريد ان يقال عندما يقرأ شعرنا من هم في خارج السودان: إن ناحية التفكير في هذه القصيدة أو روحها تدل على انها لشاعر سوداني، هذا المنظر الطبيعي الجليل الذي يصفه الشاعر موجود في السودان، هذه الحالة التي يصفها الشاعر هى حالة السودان، هذا الجمال الذي يهيم به الشاعر هو جمال نساء السودان، نبات هذه الروضة التي يصفها الشاعر ينمو شجرها في السودان» «51»، فهو يدعو إلى أن يصطبغ الادب السوداني اصطباغاً تاماً بطابع بيئته المحلية.