يؤرخ لبداية نشأة الخدمة المدنية في السودان بعد خروج الموظفين المصريين من البلاد مع الجيش المصري عقب حادث اغتيال "السير لي ستاك "، حاكم عام السودان في مصر،إذ قام البريطانيون بالسعي نحو تأسيس خدمة مدنية تقوم علي أسس ومعايير قومية تتناسب مع مساحة السودان والطيف الذي يشكله المجتمع. وترك المستعمر بعد رحيله خدمة عامة متطورة وفاعلة تضاهي ارث البريطانيين في شبه الجزيرة الهندية،ولم تتدخل الحكومة الوطنية الأولى برئاسة الأزهري في تسييس الخدمة،واستمرت كذلك حتى فترة الفريق عبود،وبدأ الداء ينخر في عظامها بعد ثورة 1964 تحت شعار "التطهير واجب وطني"،واستمر التدهور خلال حكم نميري الذي استغله الشيوعيون بتطهير الخدمة من اليمين و"الرجعيين"،والعهد الديمقراطي تحت ستار كنس آثار مايو ،واكملت "الانقاذ" ما تبقى عبر التمكين فشردت كفاءات واستبدلتهم بأهل الولاء تطبيقا لشعارات "القوي الأمين" و"أهل الثقة" و" البدريون". وكانت الخدمة العامة من الأسباب الرئيسة التي سممت العلاقة بين الشمال والجنوب، وعززت الشعور بالغبن، فقد كانت مطالب الجنوبيين بسيطة جداً،حيث طالبوا بمساواة الأجور بين العاملين في الشمال والجنوب، حيث كان الجنوبيون يتقاضون رواتب أقل لنفس الوظائف التي يشغلها الشماليون، خلال فترة الأربعينيات وفي بداية الخمسينيات،ثم طالبوا بالمشاركة المنصفة في الخدمة المدنية، وهي مرحلة السودنة عام 1954م عندما تمت سودنة (800) وظيفة، طالب الجنوبيون ب (40) وظيفة لكنهم أعطوا (6) وظائف فقط، أرفعها كانت برتبة مساعد مفتش، مما خلق فجوة عدم الثقة بين الشمال والجنوب اذ تعاملت اللجنة مع السودنة بالمعايير التقليدية وهي الأقدمية والمؤهل، ولم تفطن للمعيار السياسي الذي كانت ظروف السودان تحتم مراعاته ، وقال أهل الجنوب يومئذ إن ما حدث لم يكن سودنة بل "شملنة" وأن كل ما أصابوه من السودنة كان استبدالاً لسيد بسيد. وقد وجدت لجنة التحقيق في الاضطرابات التي رافقت تمرد الفرقة الإستوائية في توريت في أغسطس 1955، أن من الأسباب خيبة أمل الجنوبيين في نتائج السودنة والخوف من سيطرة الشماليين. وخلال لقائه مع قيادات الخدمة المدنية أمس، تعهد الرئيس عمر البشير بتحرير الخدمة من المحسوبية والتمكين، وأن تكون الكفاءة هي معيار التوظيف لا البطاقة السياسية أو العلاقة مع أهل السلطة. خطوة جريئة تفتح صفحة جديدة فارقة بين مرحلتين،ولا نريد أن نعقد الوضع أو نشطح بالدعوة الى مراجعة التعيينات السياسية التي تمت خلال العقدين الماضيين، فذلك عهد سيحاسب عليه التاريخ. ولكن تحديث الخدمة العامة وإصلاحها لا يكون دفعة واحدة وإنما يأتي عبر مراحل متصلة لمواكبة التطور المستمر في أوجه الحياة المختلفة فى البلاد، وترى منظمة الشفافية العالمية لمحاربة ممارسات الفساد، أن التسيب الإداري عالميا يتسبب في زيادة مستوى الإنفاق العام بما يتراوح بين 20%و25% سنوياً، كما أنه يؤدي إلى إهدار المال العام وحقوق المواطنين. وعلي الرغم من تماثل وتطابق تشريعات الخدمة المدنية التي صدرت في ظل الدساتير المختلفة التي أقرت في البلاد، والاختلاف الطفيف بينها في بعض التعديلات الإصلاحية دونما مساس بالجوهر والأطر العامة، توجد بعض أوجه القصور التي شابت الخدمة المدنية في الحكومات التي تعاقبت علي الحكم الوطني،وأبرزها التدخلات السياسية، فكان يتم التعيين السياسي في وظائف الخدمة المدنية دونما مراعاة لمعايير تشريعات الخدمة من كفاءة علمية وخبرة عملية وتجاوز شروط التدرج الهرمي الوظيفي للوظائف القيادية والوسيطة. وتواجه الوظيفة العامة مشكلات عدة تهدد شاغليها وهي الفجوة بين دخل الوظيفة ومتطلبات الحياة الضرورية بسبب التضخم العالمي واستمرار ارتفاع الأسعار وعدم قدرة الحكومة على زيادة المرتبات بنسبة توازي هيجان الأسواق،فيجد الموظف نفسه محاصرا بين التمسك بضميره الحي وحاجات أسرته ما يضعه أمام امتحان عسير ويقلل من أدائه. نأمل أن تراعي مفوضية الخدمة المدنية الولايات الأكثر تهميشا في التوظيف عبر التمييز الايجابي، فكثيرون من أهلنا في شرق البلاد وغربها يرون أن حقوقهم مهضومة، وأن أبناءهم لا يجدون حظا في التوظيف لأسباب مختلفة،كما أن تخريج الجامعات كل عام أكثر من مائة ألف،وفي ظل الأوضاع الاقتصادية المعقدة سيجعل مهمة الدولة في محاربة العطالة في غاية الصعوبة.