يبدو ان الحكومة قد حسمت تناقضاتها العديدة حول قضية رعايا دولة جنوب السودان في اراضيها، فبعد ان ابدت مواقف اكثر تطرفا ازاء استمرار هذا الوجود باي صفة كانت، عادت وقالت بالامس على لسان وزير خارجيتها بانها ستراعي الجوانب الاخلاقية والانسانية والسياسية في التعاطي معهم. ومن يسترجع العبارات التي استخدمها كرتي بالامس سيكتشف مفارقتها الكاملة لنهجها السابق المتوعد بترحيل جنوبي الشمال فورا وبشنط الحديد التي قدموا بها. وتأتي تصريحات كرتي لتعلن عن مرحلة جديدة في سياق عمليات التسخين والتهدئة التي تنتظم تصريحات المسئولين في البلدين، بشأن القضايا والملفات التي لم يتم حسمها قبل انفصال الجنوب في يوليو الماضي، الا ان هذه التصريحات استهدفت تحديدا بث رسالة سريعة تحوى تطمينات واسعة للجنوبيين المقيمين في الشمال بان حكومته ستراعي الجوانب الاخلاقية والانسانية والسياسية في التعاطي مع عملية ترحيلهم الى دولتهم الوليدة، وانها ستنظر بعين الاعتبار للمشاكل التي تعترض نقلهم وتيسيرها بشكل يليق بهم، واتاحة الفرصة لتوفيق الاوضاع ولن تتعامل معها كمجموعات غير مرغوب فيها. بيد ان تلك التصريحات من كرتي يضعها مراقبون في خانة ردود الافعال المعتادة بين الجانبين، منتقدين الطريقة التي يتعامل بها كلا الجانبين مع القضية، والتي قد تصل حد المزايدة على حياة الآلاف، ومشيرين لتصريحات سابقة لسلفاكير بشأن الشماليين المقيمين في الجنوب، حض خلالها سلفا قبل يومين أفراد «الجيش الشعبي» على عدم التحرش أو الاعتداء على الشماليين المقيمين في الجنوب، قائلاً: «أي شمالي جاءنا هنا هو مشرد من الحرب ومن البشير ونظامه. لا تمسوا بهمة الجنوبيين المقيمين في الشمال بعيدا عن سياسة ردود الافعال، ، لأنهم ذاتهم فروا من البشير، نحن مشكلتنا مع البشير وشلّة الحرامية الذين معه». وقال المحلل السياسي الدكتور صلاح الدومة ان حكومة الخرطوم فوتت فرصة التعامل مع من تبقى من « الجنوبيين» في الشمال انطلاقا من روح « الابوة»، واشار الدومة ل» الصحافة» ان تصريحات وزير الخارجية الحانية جاءت متأخره عن موعدها بكثير، لان ما سبقها من تصريحات ومواقف معلنة من عديد المسئولين، لم تخلف غير المرارات عند اولئك. وابدى المحلل السياسي اسفه البالغ من ما دعاها بعملية « عودة الوعى»، مؤكدا ان التعامل مع القضية مبكرا قبل واثناء وبعد الانفصال، بهذه الروح كان من الممكن ان يوفر على الحكومة الكثير من المشاق ، التي تبذلها في سبيل التوصل لتفاهمات مع جوبا، في النفط والتجارة والخلافات الحدودية، واضاف الدومة « قطعا طريقة تعامل الخرطوم مع هذه القضية بالذات، كان سيجعل الجنوب يعتمد على الشمال في التجارة والتعليم والصحة، بدلا من اعتماده على يوغندا وكينيا واثيوبيا». ونوه المحلل السياسي في حديثه بالامس ل» الصحافة» الى ان اغلب المراقبين للعلاقات بين الشمال والجنوب قبل وبعد الانفصال، طالبوا الجانبين بالتعامل مع هذه القضية بما تستحقه من اهتمام، ولفتوا الجانبين الى ان ايلائها الاولوية القصوى كان من الممكن ان يفتح الباب، لنجاح مقترحات مثل» الكونفدرالية» التي تظل المفتاح الوحيد لمعالجة قضايا مثل « أبيي». غير ان الدكتور صلاح الدومة عاد ايضا ووصف تصريحات كرتي بالنقطة الايجابية، الا انه رجح عدم تعامل جوبا معها كبادرة تستحق الاعتبار، بسبب ما وصفه بمناخ عدم الثقة والمزايدات السائد بين الجانبين. ولم يذهب الدكتور صلاح الدومة بعيدا في النقطة الاخيرة، فجوبا ايضا قد اعتادت على استخدام ملف « الشماليين» المقيمين في الجنوب بذات الطريقة التي حذر منها المحلل السياسي. وبعد الكثير من الاجراءات « التطفيشية» بحق تجار ومواطنين هناك، تزامنت تصريحات رئيس دولة الجنوب مع ما تم اعلانه باسم «الجمعية العمومية للجالية السودانية بجمهورية جنوب السودان» ويتركز في رفضها لفكرة قيام اي حرب مستقبلاً بين السودان وجنوب السودان ، وقال اعضاء هذه الجمعية والتي تضم قطاعا عريضا من التجار والافراد العاملين بجنوب السودان إنهم بصدد تنظيم مظاهرة سلمية امام سفارة السودان ب(جوبا) سيطالبون فيها رفضهم للحرب . وبث من خلال اللقاء التنويري الاول الذي نظمه عمدة مدينة جوبا محمد الحاج بابا الله للجالية بفندق نيوسودان وحضره، سكرتير السياسة والتعبئة بالحزب الحاكم في جوبا انتباس نجوك، بحسب مراسل « اخبار اليوم» في جوبا، بث دعوات للسودانيين بضرورة الاحساس بالطمأنينة والراحة في جنوب السودان، وذلك لانهم سيحصلون ،بحسب القانون على الجنسية الجنوبية بعد مرور خمس سنوات. ونفى انتباس نجوك وقوع اي اضهاد للشماليين في الجنوب، معتبرا ان الاجتماع في غاية الاهمية لانه سيسهم في بناء الثقة بين الشماليين والجنوبيين. وتوقيت هذه التحركات من « جوبا» تجاه التواجد « الشمالي « هناك لا تبرئه من شبهة المزايدة التي دمغ بها المحلل السياسي العاصمتين، الا ان اقرار دولة الجنوب منح الجنسية لأولئك بمنطوق القانون بعد « 5» اعوام، يضع « الخرطوم» في موقع المتعنت!. غير ان عضو المكتب القيادي للحزب الحاكم هنا الدكتور مطرف صديق يشير الى انه قد تم الاتفاق بشكل واضح على منح الشماليين في الجنوب والجنوبيين في الشمال « 9» اشهر لتوفيق اوضاعهم، وقال مطرف ل» الصحافة» ان ما اقدمت عليه حكومة جوبا بخصوص هذا الامر، شئ يخصها لانه يخضع لقوانينها بشأن الجنسية. واكد مطرف ان الخرطوم ملتزمة بذلك الاتفاق، وبانه لم يحدث تغيير بخصوص المهلة القانونية التي تنتهي في ابريل القادم. ورغم ان العلاقات بين الدولتين في الشمال والجنوب تمر بمنعطف خطير، فان العلاقات بين الشعبين لازالت كما هي،فحركة التواصل الانساني والتجاري تمضى محاولة اختراق ما يعترض طريقها ، وفشل الحكومتين في اقرار اتفاق بشأن منح جنسية كليهما لكل من يرغب فيها من ابناء جمهورية السودان السابقة، لم يضع الا عوائق اضافية في طريق التواصل بين الشعبين، لكنه بحسب مواطن جنوبي لازال يعيش في الخرطوم، مجرد « مشكلة نستطيع التعايش معها « ويضيف جوزيف ميوم « اننا نملك حياة كاملة هنا، ولا اعلم كيف ستكون الحياة في جنوب لم أره من قبل». وميوم هذا يعد احصائيا أحد (300) ألف مواطن جنوبي ترغب الخرطوم في ترحيلهم، متى كانت الفرصة سانحة.