هل ستظل طبيعة المرحلة القادمة بين دولتي السودان وجنوب السودان رهينة بتحركات المجتمع الدولي، وهل صدق مراقبون، حينما رأوا ان الخرطوموجوبا فقدتا للابد زمام الامور فيما يخص ادارة علاقاتهما والتعامل مع مترتبات الهجوم على هجليج، هذه تساؤلات مطروحة بشدة لان كلا العاصمتين عمدتا الى اعلان مواقف لا يمكن الاعتماد على ثباتها، مثل تأكيد الخرطوم على انها لن تفاوض مرة اخرى الا بعد حسم الملفات الامنية عسكريا وهو الحسم الذي يتطلب تجدد المعارك في جنوب كردفان والنيل الازرق حتى يتم القضاء على قوات الجبهة الثورية، ونحو جوبا الى عالم الامنيات حينما تطالب بنشر قوات دولية على حدودها مع الشمال، قبل ان تبدي استعدادا للعودة الى المفاوضات. وما يدعو اكثر للتشكيك في ان الشمال والجنوب يقفان معا على رمال متحركة بفعل اندلاع المواجهات في هجليج، ولا يملكان من امرهما شيئاً بغير انتظار التحركات الدولية من شركاء السلام والآليات الاممية، انجراف كلاهما في اشتباكات جديدة لا طائل منها استراتيجيا، فالمعارك في تلودي بجنوب كردفان تعيد الى النزاع صبغته المحلية لكنها لا تنزع عنه شبهات دعم جوبا لقوات الجبهة الثورية. وهي الشبهات التي ينطلق منها الحزب الحاكم في الشمال حينما يرهن العودة الى المفاوضات بتوقف جوبا عن دعم الحركات التي تحمل السلاح، وقد جدد ذلك الموقف من الخرطوم وزير الدولة برئاسة الجمهورية أمين حسن عمر قبل ساعات من اعلان عزم الوسطاء الدوليين العودة لاستئناف عمليتهم بين الخرطوموجوبا، وهو ما قد يعني استباق المشاورات الاولية مع امبيكي بقطع الطريق امام التهدئة، وربما الايحاء بان الجولة القادمة لن تشبه سابقاتها ولن تكون باي حال اقل التهابا من معارك هجليج التي لازالت ادخنتها متصاعدة. وهو ما يؤمن عليه رئيس تحرير جريدة الحزب الحاكم السابق الدكتور ياسر محجوب، مشيرا الى ان الحكومة لن تحتمل جولة اخرى من الوساطة « السلبية»، وانها تتوقع من الاتحاد الافريقي لعب دور ايجابي وليس المساواة في مواقفه بين المخطئ والمصيب، وذلك في اشارة الى مطالبة الاتحاد الطرفين بضرورة ايقاف القتال في هجليج دون ان يؤنب جوبا. وقال ياسر محجوب ان التزام الاتحاد بما اعتبره « حيادا سلبيا» لن يساعد الوساطة على احراز نتائج ملموسة على صعيد الملفات المطروحة، وتابع : يجب ان يضع هذا الوسيط في اعتباره ان الجنوب كان معتديا على ارض سودانية لاخلاف عليها، وان ذلك تم على رؤوس الاشهاد وادين من المنظمات الدولية، وزاد « هذا مهم قبل ان يعاود وساطته المتوقعة». ويحدد محجوب جملة من الحقائق يرى ان على الوسيط اعتبارها قبل تدشين جولته بين الخرطوموجوبا، اولاها ان الرأى العام الشمالي معبأ ضد الجنوب وان الحكومة لا تملك ان تقدم على تقبل اي نوع من الوساطة في مثل هذا التوقيت، بخاصة وان الجهات العسكرية لازالت تحصي خسائرها البشرية، والاطراف المدنية تقيم الاضرار المادية لما حدث في هجليج، والاهم ان جوبا لازالت تقول بجنوبية المنطقة التي اعتدت عليها، ويضيف : لنجاح عملية الوساطة يجب ان يتخذ الاتحاد الافريقي موقفا اكثر وضوحا. . واكثر تحديدا للمخطئ، ومن ثم يمكن للحكومة ان تعمل على اقناع الرأى العام بجدوى الدخول في التفاوض مع دولة الجنوب. الا ان محددات الدكتور ياسر محجوب هذه لا تتوافق مع ما يدعو اليه المحلل السياسي ، الدكتور صديق تاور، كلا من الخرطوموجوبا. فتاور يرى ان على الطرفين الذهاب الى موائد الحوار دون شروط مسبقة لان الخلاف مهما طال فلا سبيل الى حله الا بالحوار والتفاوض، وان التنازع لن يفيد الجانبين ولن يحصد الا اضعافهما، ويقول الدكتور تاور» ما يحدث نتاج لصراع المتطرفين داخل الجانبين» ويتابع: وتبعات ذلك سيدفع ثمنها المواطنون هنا وهناك استقرارا ومعيشة. ويحدد الاستاذ الجامعي، بدوره، مطلوبات هذه المرحلة « ان المطلوب هو ان يفسح المجال للعقلاء في الجانبين للانتقال بالعلاقة الى مربع اخر، فبدون الحوار لما وصلا الى ما توصلا اليه من سلام وايقاف للحرب في السابق، ويضيف الدكتور تاور « ان كانا جادين ويحرصان على وسائل اقل تكلفة ، لما احتاجا لوساطة من اي طرف» وعاد ليشدد : الحوار هو الافيد لحفظ حقوق الجميع. ولكن كيف ستتعاطي الحكومة في الخرطوم مع الموقف الدولي الداعي البلدين الى الركون للحوار فورا، وهي تقول ما تقول. . ؟. يعرب هنا ياسر محجوب عن اعتقاده بان الخرطوم لا تستبطن اعتراضا على منهج الحوار مع الجنوب،واردف» لا بالعكس هي تعتمده كاستراتيجية دائمة، ولن ترفضه ابدا ان نجح الوسيط في توفير شروطها لاستئنافه». وعاد رئيس التحرير السابق لجريدة الحزب الحاكم ليشير الى ان التفاوض مع جوبا يحتاج الى قاعدة يجب توافرها ويستلزم قبلا وساطة ايجابية لا تقف على الحياد مع من يخطئ ، وتملك ان تمارس ضغوطا على «المتعنتين»، ويزيد « بغير هذا لن تفلح في اداء دور مؤثر». وليست الخرطوم وحدها من تمتلك تحفظات على الوساطة الافريقية والاممية، فجوبا هناك تعرب بالمثل عن استيائها من دور وساطة الاتحاد الأفريقي التي يترأسها الرئيس الأسبق لجنوب أفريقيا، وطالبت قبل ايام منظمة الايقاد التدخل في عملية الوساطة بينها والخرطوم لحل القضايا العالقة. ولم تكتف بذلك فقد أرسلت وفداً رفيع المستوى الى نيروبي طلباً لمساعدة الحكومة الكينية في حل ما تبقى من ملف الحدود، احدى مهام السيد امبيكي العالقة. ونقل عن وزير الاعلام بحكومة الجنوب استيائه في مؤتمر صحفي بنيروبي من الوساطة برمتها، مشتكيا من تحيز تقرير للاتحاد الأفريقي قدم سابقا الى مجلس الأمن الدولي حول الاشتباكات الحدودية التي وقعت بينها والخرطوم. وشدد الوزير الجنوبي وقتها على تولي منظمة «الايقاد» للوساطة، حال فشل وساطة الاتحاد الأفريقي في انجاح العملية. وهو ما يدعو الاسئلة لتطرح نفسها من جديد بانتظار ان تجلوها وقائع الايام القادمة،فهل يتوقع ان تحمل الوساطة الخبيرة في ملفات البلدين العالقة من جديد، وهل ينتظر من السيد امبيكي ان يحدث اختراقا كبيرا في جدار الخلافات الصلب، والحال كذلك على الضفتين. . ؟ لا يرى الدكتور خالد التجاني في ذلك الا نوعا من القفز على الواقع الراهن، مشيرا ان الحرب إحدى ادوات التفاوض، فهي تهدف الى تعزيز المواقف التفاوضية، ويتابع : لا يجب استقراء ما يمكن ان تحققه العملية التفاوضية، قبل استجلاء المسالك التي ستعيد الشمال والجنوب الى طاولة التفاوض من جديد، فالمحلل السياسي يقطع بان الطرفين سيعودان للحوار « طال الزمن ام قصر» لانه لا يوجد امامهما خيار غيره، مذكرا بانه لم يتم اطلاقا حسم صراع بين طرفين بالحرب. ويرى التجاني ان المؤتمر الوطني والحركة الشعبية يفتقدان للرؤية الاستراتيجية لطبيعة العلاقات بين البلدين، ويضيف « ان كانت موجودة لما اندلعت الحرب اصلا ولما تواجدت مبررات لها». لكن الدكتور خالد التجاني يعود مراهنا على العامل الدولي في اتخاذ الطرفين طريق التفاوض، مشيرا ان اتفاقية السلام لم تكن في الاصل سودانية فقط، وانها انطلاقا من تلك الحقيقة تلقي على المجتمع الدولي التزامات اخلاقية لكي يصل بالعملية السلمية الى نهايتها، لافتا في هذا الاطار الى الخطاب الذي توجه به الرئيس الامريكي امس الاول الى البلدين ، الا ان التجاني عاد وشدد على ضرورة ان تتحلى الوساطة المرتقبة بالنزاهة وان تراعي مصالح جميع الاطراف.