تهيمن الأجواء الحربية على الوضع السوداني بشكل عام، لكن ثمة من يرى أن هناك مخرجاً من هذه الحالة الموسومة عموماً بانعدام الثقة مع الطرف الجنوبي، والتي يمكن في حال توافرها تجاوز المشكلات القائمة مهما كانت درجة تعقيداتها، وإزاء ذلك ظهرت أخيراً دعوة لانشاء جمعية للتآخي بين الشمال والجنوب، بينما دعا مساعد رئيس الجمهورية جعفر الصادق الميرغني إلى تكوين لجنة حكماء للخروج من هذا النفق المظلم، ومن الواضح أن الدعوتين تركزان على مساعٍ من قبل شخصيات من خارج الاطار الرسمي في البلدين لبناء تلك الثقة المفقودة. وقد وجدت الدعوة لاقامة جمعية صداقة سودانية/ سودانية جنوبية، تأييداً واسعاً على الأقل من قبل الذين يبحرون في الفضاء الأسفيري «الانترنت»، لكنها غابت عن صفحات صحفنا اليومية، وقد يعيد ذلك جدلا بدأ منذ وقت حول مدى فاعلية ودور كل من وسائط الإعلام التقليدية وتلك الالكترونية وتأثيراتها وامكانية توصيلها الأفكار ومختلف المواقف إلى الجمهرة الواسعة من الشعب. وفي هذا المقام تحديداً نشير إلى أن القائمين على المبادرة هما من الإعلاميين البارزين في الساحة: محجوب محمد صالح رئيس تحرير صحيفة «الأيام»، والاكاديمي والكاتب الصحافي الدكتور الطيب زين العابدين، ومع ذلك فقد كان حظ مبادرتهما من التناول قليلاً. والفكرة من وجهة نظري تعمل على الحد من هيمنة التوجه الحربي وترسيخ نوع من الثقة المنشودة التي أشرنا إليها في بداية المقال، مع خلق رأي عام مساند في الدولتين لاحلال بدائل للقتال باستثمار بنية تحتية متينة من العلاقات على مستوى شعبي الدولتين، يمكن البناء عليها لتغذية عوامل التقارب الموجودة أصلاً وبث الحياة فيها، مع التنبيه إلى أن الجهد هنا هو جهد شعبي يزيد من حيويته أنه يتم في أجواء ثورات الربيع العربي التي أكدت أن للشعوب كلمة نافذة ومؤثرة، وأنها يمكن أن تعدل مسارات السياسة بالطريقة التي ترعى مصالحها الحقيقية. ويأتي هذا التطور والساحة تزدحم بكل مظاهر التعبئة العسكرية، بينما تجد دعوات متتابعة للسلام طريقها بصعوبة وسط تلك الغيوم الكثيفة التي تحجب أية بارقة للتسوية، ومع ذلك فإننا بتنا على مقربة من عملية تهدئة جبرية بين الشمال والجنوب ينص عليها قرار مجلس الأمن رقم «2046» وفقاً لخطوات ملزمة تستوجب التنفيذ بموجب مواقيت محددة تحت طائلة العقوبات. وربما صح القول إن تحركاً شعبياً من الجانبين في اتجاه السلام تنشط فيه مثل هذه الجمعية، ويفضي إلى استعادة الثقة، قد يحفظ كرامة الشمال والجنوب بدلاً من فرض السلام على الدولتين تحت ضغوط القرار الدولي الذي اصبح بالفعل في طور السريان، ويبقى إذن أن تستمر هذه الجمعية في جهودها، ولا نعرف على وجه الدقة مدى ما قطعته من خطوات لإنشائها، إلا أن عملها يظل مطلوباً للمساعدة في خلق رأي عام مساند للسلام بالطريقة التي تشعر الحادبين عليه في الجانبين أنهما بصدد عملية طويلة لتطبيب جراحات من الصعب معالجتها بمجرد وسائل رسمية وقرارات دولية. كما تأتي مبادرة الإعلان عن الجمعية في ظل الافتئات على آمال وتطلعات الشعب السوداني من قبل أناس يرون أن الأصل في العلاقة بين الشمال والجنوب هو التباعد، وهؤلاء هم المسؤولون عن كم هائل من المصائب التي يتحملها الشعب يوماً بعد الآخر، وهم يعملون على تغذية عوامل الفرقة والتباعد، وقد وجدوا الأجواء السياسية والمعينات الإعلامية الملائمة التي تعجل بتحقيق أهدافهم. وفي التطبيقات الأخيرة لجماعة منبر السلام العادل استغلالها للأجواء الحربية لتعزيز توجهاتها الاقصائية، وهي التي عملت على نسف محاولات التقارب عندما دفعت باتجاه الغاء الاتفاق الاطاري بأديس أبابا في يوليو 2011م، الذي استهدف وقف الحرب في جبال النوبة، بينما اتاحوا للحرب أن تتمدد إلى النيل الأزرق. وفي مارس من العام الجاري تمكنت ذات الجهات من تغييب الاتفاق الاطاري بين الشمال والجنوب الذي كان ينادي بالحريات الأربع. إلى ذلك فقد بدت الساحة خالية تماماً أمام منبر السلام العادل، وبدا وكأنه يعبر عن رأي عام واسع، غير أن الحقيقة هي غير ذلك، حيث استغل المنبر تأييداً من قيادات سياسية مؤثرة، وعمل على تمرير أجندته بما لديه من وسائط إعلامية تعمل بتسهيلات غير متاحة للمنافسين.. وقد أفرزت أجواء هجليج إلى جانب التضامن الشعبي المناهض لاحتلالها، حقائق أخرى تمثلت في دعوات إلى تخوين البعض، وقد جاءت هذه النظرة الاستعلائية التي قسمت الناس إلى وطنيين وخونة وهي تستلب حقوقاً ليست لها، وكأنما أمر توزيع صكوك الوطنية رهن بهذه الجهة أو تلك. فالوطنية الحقة لا تظهر فقط عند الملمات والحروب، بل إنها شأن يومي يقود الإحساس به إلى تجويد العمل والالتزام به، وإلى درء المفاسد التي تنتقص من حق الوطن والتي تتجلى في استشراء الفساد وفي الأداء الخدمي الضعيف الذي تعانيه جموع الشعب في التعليم والعلاج وفي التوظيف وفي الكبوات المتلاحقة في الزراعة والصناعة وفي جميع شأننا.. بينما كان من شأن الوطنية الحقة أن توجد أداءً سليماً في كل هذه المجالات، وبالضرورة بناءً أمنياً متيناً لحمته وسداته اسناد الأمر إلى القوي الأمين، ومناص القوة هنا يتأتى من تفاصيل عديدة تتناول بشكل خاص الإعداد العلمي والعملي لكل الفئات المسؤولة عن عمل الدولة وبنائها، ويستوجب ذلك بالطبع ابعاد مفردات مثل «التمكين» اتاحت اسناد الكثير من الشؤون إلى غير أهلها.. إن ذلك يفترض بالطبع وعاءً سياسياً جامعاً لكل مفردات وأجزاء الطيف السياسي، وإذا كان هناك طوال أكثر من عشرين عاماً أداء حكومي ضعيف اخرج على سبيل المثال مشروعاً ناجحاً مثل مشروع الجزيرة من دائرة الريادة في قيادة الاقتصاد، فإن من المهم مراجعة أداء القائمين على أمر هذا المشروع والسياسات التي أفرزت هذا الفشل، ولن يتأتي ذلك مع الإصرار على استقطاب العناصر من ذات الدائرة السياسية التي تنفرد بالحكم وهي المؤتمر الوطني، ويعني ذلك مباشرة أن المسألة تستوجب توسيع قاعدة المشاركة في الحكم، حتي يمكن السماح للعناصر المجدة في هذه الفسيفساء الاجتماعية والسياسية أن تدفع بالنابهين من أبنائها لدائرة العمل العام، سواء أكان ذلك في الزراعة أم غيرها. ولسنا هنا في وارد تقديم روشتة لكيفية الوصول إلى هذه المشاركة السياسية الفاعلة التي تستطيع استيعاب الجميع، فذلك أمر معلوم الطريق إليه، لكننا نحث على حدوث ذلك ، وإلا فإننا سنظل ننتج ذات الأزمات في كل مرة وربما بطريقة أبشع من سابقتها كل حين وآخر.. وأكثر ما يخيف أن تتلبس حالة من الشعور بالعظمة والاستعلاء المجموعة التي تمسك بمقاليد الأمور بعد الانتصار في هجليج، وأن تتوهم أنها فقط هي القادرة عليه، وأنه ينبغي اقصاء الآخرين الذين اطلقوا عليهم تسميات مثل «الخونة والطابور الخامس»، فهذا الانتصار في هجليج سيتحول إلى مجد حقيقي لو وضعناه في صلب رؤيتنا المستقبلية التي تستصحب كافة عناصر المجتمع وألوانه السياسية، ولو جعلناه بمثابة المحفز للانطلاق نحو مستقبل واعد بمشاركة جميع القوى، خاصة أن الجيش الذي حقق هذا الانجاز هو جيش يضم كل هذه الفئات والجماعات التي تكون الشعب السوداني. ومن المهم أيضاً التجاوز عن صغائر الأمور والعبارات النارية التي انطلقت خلال موجة الفرح العارم بعودة هجليج، مع أهمية الالتزام بالمواثيق والأعراف الدولية التي لا تجيز تهديد الآخرين وهم في عقر دارهم، والكف عن النظر إلى أنفسنا كدولة كبرى تتولى رعاية مصالح شعب آخر وحتى إمكانية تخليصه من حكامه.. ونعود إلى جمعية الإخوة السودانية الجنوبية، ونقول إنه على الرغم من أنها ليست حزباً سياسياً، فإنها على الأقل يمكن أن تعمل على موازنة ذلك الاندفاع نحو التباعد بين الشعبين، مع التأكيد على شرعية الدعوة للسلام من خلال استقطاب القوى المناصرة له في الجانبين ودرء اتهامات التخوين، والتحرك المطلوب يركز على تمتين وسائل التقارب التي تكتسب قوتها من شعبي الدولتين، وهي تفعل ذلك فإنها تفترض ضمناً أن عودة العلاقات الطبيعية بين الشعبين ستعمل تلقائياً على تجاوز الكثير من العقبات، وأن من شأن ذلك تنشيط الروابط الموجودة مسبقاً، ومن ثم إبعاد شبح الحرب من خلال التركيز على المصالح المشتركة وهي كثيرة ومتعددة ولا تحدها حدود، وأن الجميع في جانبي الحدود وفي أعماق الدولتين يستفيدون من مثل هذا التلاقي والتقارب، حتى وإن كانت هذه اللحمة مهددة بعوامل لتقويضها منذ الاستقلال وقبله وتحديداً في عام 1922م عند صدور قانون المناطق المقفولة الذي منع انسياب التواصل الطبيعي للشعب السوداني في الشمال والجنوب.. وعلينا أن نستقصي كل ما من شأنه زيادة التقارب، لأن قدرنا أن نكون دولتين جارتين تستفيدان إلى أقصى ما يمكن من ثمار هذا الجوار. [email protected]