يا ترى هل استشعر شابو في مرحلة «شجر الحب الطيب» هدوء النار حتى خمودها؟ وقد رأيته فيها طاعنا في السن «2004» بعد عرم الغرام وفتواته... في زمنه الاول. انا امتعني تمعني بالروية هذه المرحلة الخصبة، وقد وجدته يحسن متانة غير مألوفة في شعرنا تحكي جليا نضج التجربة التي بدأت متمردة لا تستجيب لمعطيات الشاعرية المستكينة في قرارها، ولا تكترث بها، وقد رأيته حينا ينحت ذاتا فضفاضة في جمالها، واثقة في جلالها، لا تجد حرجا في تقحمها لمفردات موغلة في التقنية والصنعة الممجوجة في رحاب السلاسة مثل: الجينات، والتركيب النووي، والنسبي، حتى كلمبس.. الخ مما يتاح وصمة معيبة بمقياس التقليدية، ونجد هنا مداخل سلطانه او الخاصية التي لا تدفع للزخرف غالبا فرادة يلفتك في «شجر الحب» أنه يستوحي حينا وافدا موروثيا «طاعناً في السن» يقيس من مصطلحه: «نسبأزقاً» «غير مُجدٍ» «يا لبابل «يا محلق .. اخطأت عيناك» «يأتي من الزمن القديم». هنا ليس في الوافد مطلق الانتماء.. الأمر كالدائرة المفرغة ينقاد منها إليها، لا يدري أين طرفاها!.. المبتدأ المنتهى! «وعليك منذ الآن.. أن تفتح طريقك في فضاء قاتم ودوائر تُفضي لدائرة تُعيد حراكها أبداً لتبدأ من قديم». في قصيدة «العشق المعاصر» كأنما نجد مبرراً للتطهيم الوافر الذي كدّسه الشاعر، كأنه يريد زركشة النفس حتى تبدو شارحة حداثيتها، فنراه يحشد أناقة لغوية عصرية: «أراطن ظلي كي يتركني»، وهذا التحشيد أراه شارحا لموقع التناقض، لا اعتذارا ولا اعتزازا.. بل اعترافاً: «فما أكذبني ما أصدقني هذا زمني .. يلبس جلد الحرباء ويلبسني». وجدته في مواقف الاعتراف صارخا في «بيان يخصني» كأن يخاف علينا تقحم فجاجه الوعرة، يريد ان يخلص له الأمر.. وحده «يخصه».. وهو ينقل شاهداً أن في أفقه العريض.. مناديح رافضة لقهر الرأي .. ذلك لاتساع رحابه، واستيعابه، مدفوعاً بانسانية خاصة لأن «أسهم في كل حوارات العالم» ما دامت أغصانه «تشرب من كل الأضواء.. وكل الأنداء».. هنا عشق الفرادة، لا فرادة العشق، ما يدفع عنوة للاستجابة.. تزكية للنفس ومعرفة.. أن منطق الشعر ليس مطلقاً.. مثلما مطلق الشعر ليس منطقاً صارماً موصود الحدود، وهنا هو لا يطلب الجدوى حتماً.. تتنازعه المعرفة المصقولة بالرغبة.. ثم يقعده اليأس العاصف عن المعارف.. وبينما هو يسجل اعترافاً نبيلاً مديناً بأفضاله غير المطلقة، نجده يعتوره الضعف الإنساني حيناً: «فأنا أيضاً.. أعرف أشياء جميلة أقدر أن أبدع أشياء جميلة أن أدخل في الجدل الناشط .. في الأشياء ان أدهشكم.. بالرأي النافذ كالضوء وكالماء بالضحك الباسل.. في قلب المأساة لكنني... أضعف أحياناً... يقعدني اليأس العاصف عن فهم الاشياء».. أجد أصدق ما في «البيان» هو إحساس المعرفة، المبرر الزاهي للصدح أو الصدح دعوة بعدما وجدت مبررها.. عريضة لا تستثني أحداً: «جميعكم تفضلوا.. فالبيت واسع فسيح وأرضه مفروشة بالعشب.. بالمعادن الكريمة وكله نوافذ للضوء.. والهواء.. والمطر لكنني أود لو تعلقوا المعاطف القديمة على المشاجب التي قضى على حديدها الصدأ أن تتركوا أحقادكم تموت لأنها تعيش زمانها الخطأ» في قصيدة «دعوة» وجدت «برنامجا وطنيا» فيه انفاس التسامح، منتبذا «المعاطف القديمة» تاركاً «أحقادكم تموت»، وهنا ثمة ترتيب منطقي بين الدعوة اللاحقة والبيان السابق، والراجح أن «دعوة» جاءت حين احتدم الصراع وتسربلت أطرافه مسرح الشخصانية!! فجاءت الدعوة واعدة بالخير، مستشرفة وطناً يسع الجميع، وهذا يقيناً منحى كان محتجباً، بعد المحنة القاسية. في «شجر الحب الطيب» تطفح الأحزان، وقد اتفقدناها سابقاً، يبدو هذا تراتباً أحاسيس العمر الذي «طعن في السن» أنضجته التجربة، وأنت تجد دفقة الحزن الكابية تلاحقك أينما يممت، إلا في القليل الذي يتم ذكرى، والراجح خروجه من قرار الضوضاء إلى سكونه في النهر، بداية أحاسيس ثم بهارج المشاعل يستضيء النيل بها، وقد غاض لونها واندرس. الأحاسيس تذهب بالعمر بعيداً، تدفع لنسج الأحلام والذكرى تدحر الأحزان... «طائر الحلم»: «يا لبشرى.. تنبت الأرض العقيم تشرق الدنيا وينأى عن وجوه الناس هذا الحزن واليأس الدمامل». ثم نجده حينا تنازعه رغبة المقاومة لما تنضح الذكرى جميلة: «صحيح أن وجهك مثل وجهي شاخ في زمن الضياع غير أني يا صديقي ذاهب في الأرض ... أبحث عن شراعي». إن «أمتع مرارات» الطعن في السن ما بدأ عودة للماضي الجميل.. يستعيد ذكرى الفرح المشبوب، فينفجر الألم.. لا مناص.. من «رقية العشق»: «كنت علمت الصبايا رقية العشق وتذويق الكلام في المواجيد الغرام أريد الآن روحي من نسيج العنكبوت أسمع الآن حفيفاً في شغافي للخروج الأبدي أدخل الحلبة إن شئت ولكن.. لا تحدثني طويلاً عن بسالات خرافة وعن وشم على عنق الزرافة ها هنا كنا ونمضي غير هاتيك المسافة» تأمل متعة التناص: «كنت + الآن» = الخروج الأبدي.. وهو عينه «كنا + ونمضي» = حفيف الشغاف، أو الحشرجة. هنا نرى شابو كمن يستشعر «الاستسلام طواعية» ربما تم هذا جراء الشبع والملال، وربما هو الوهن وما اعترى «روحي من نسيج العنكبوت».. تأمل نضج التجربة وجلال الشاعرية التي امتلك ناصيتها تماماً هنا شابو، ولو كان لي أن أجعل «مرحلة بين مرحلتين» لجعلت قصيدة«كان يعلم» سمتاً بينهما، ونعلم فيها أن ذلك «الحلم» سينقضي يوماً سريعاً، واشك المنتهى! عندي أن سائر أشعار الحزن صادقة ومشبوبة عواطفها، بعدها تترقرق حسرة.. «كان يعلم.. أن بعد الحفل صمتاً أن موتاً.. كان في الرقص خبيئاً يتبرعم أن أفعى ترصد الطاؤوس وهناً وهو يختال على العشب جمالاً مطمئناً ثم تنساب حثيثاً تنهش القلب الجميل والطواويس اليتامى تتفلى في الأصيل» أرى بأم عيني مدركاً أن هذا الشعر في الشعر ملك ! لم يتكدده صاحبه ولم يلهث صنعة. وتتوالى فيعرض الاخدان: «أيها المشرق في ليل الكآبة» ثم «رحيل الأصدقاء» ثم «يا للأسى» ثم «نهر حزين» ثم «حزن» ثم «صديقي في الشجن» .. هي الأرتال الحزينة!! هذا يقينا النهر من الأحزان! ولكن لكم كان حزني غامراً لما وجدت شابو يسوق اعترافاً بأن وردته العجوز تشارف الذبول.. تخادع العيون.. تراوغ لكنه قبل الرحيل يعلمه يقيناً مراً يسترفد البكاء منا.. قبله.. «الوردة العجوز تكابر الورود في الصباح تراوغ الذبول وعندما.. يحين في سمائها المساء تنحني وحيدة.. وتبدأ البكاء».. وبعد.. هذه متعات عشتها في سمو أنهل من نبع شابو الرويّ .. أعذب الشعر ثم امتلئ حزناً أن قدرات طافرة كهذه يلفها الضياع! لا تجد من مصيخ ولا مجيب.. ولو كان شابو في وطن غير وطنه لاتصاغت له النجوم .. أنت وحدك في زمننا القحل القحط.. حقله من نور.. وأيقونة للشعر.. يا فرحي بك.. باركتك السماء.. ملحوظة: في الديوان أخطاء طباعية كثيرة جداً لا تغيب عن فطنة.. وهي تدفعك للامتعاض، ثم السؤال كيف تم هذا.. إن الذين لا يعرفون قدرات الشاعر السامكة سيبخسونه ظلماً. مركز الضاد للدراسات العربية