لقد تابع الرأي العام السوداني من خلال التغطيات الاعلامية الصحفية قصة لقاء نحو من اربعين من الصحافيين والاعلاميين والثقافيين والسياسيين السبت الماضي بمقر اقامة والي شمال دارفور، ضمن الفعاليات الاسبوعية لصالون الراحل سيد أحمد خليفة والذي ظل يتناول منذ تأسيسه مختلف قضايا الوطن. جاء تناول الصالون هذه المرة السؤال حول آفاق السلام والتنمية في دارفور، تعبيراً عن رغبة وطنية متسارعة لاستكمال السلام في دارفور بخطى تنموية منتجة، اضافة الى أن المبادرة جاءت بعضاً من مستحقات اعادة الاعتبار لدارفور المجروحة في عظمتها التاريخية والثقافية بسبب الفشل المركزي، وكذلك التعريف بمواردها الاقتصادية التي قد تسهم بها في السلام والتنمية معاً، كما جاءت من ناحية ثالثة محاكمة لوثيقة الدوحة في عامها الاول، وعما اذا كانت تستطيع المضي قدماً بمكونات الاقليم الى الوحدة؟ والى المشاركة في كل مستويات السلطة تعزيزاً للانتماء الوطني والشراكة من أجل مستقبل متراض عليه بالديمقراطية واللا مركزية والتنمية؟. نصب الصالون محكمة عادلة بالفاشر، بما توفر لها من أمن وأمان، وإدارة مقتدرة خضعت لها ارادة الوالي بقبوله تقييد فرصته في الحديث بالزمن كما الآخرين، و(تلك سابقة دستورية تستحق النظر)، وبما توفر من التقدم النسبي في تطبيقات وثيقة الدوحة، ثم ما وجده الصالون من تسهيل مستحق من الخطوط الجوية السودانية، وما صادفه من أريحية الولاية في خلق بيئة من الأبهة المنتقدة محلياً، كل تلك العوامل جعلت من محكمة الرأي التي نصبها الصالون، محكمة عادلة، وتجربة تعليمية تثقيفية، ومنصة انطلاق لدارفور بوثيقة الدوحة بزياداتها المستقبلية. (2) قدم عثمان يوسف كبر والي ولاية شمال دارفور نفسه للصالون، كسياسي صاحب رؤية تعترف للآخرين بحق المشاركة على قاعدة المواطنة، كما أشار د.محمد آدم عبد الكريم رئيس حزب الامة القومي بالولاية والمتحدث باسم القوى السياسية في الصالون، إذ امتدح نهج القنوات المفتوحة بين حكومة الولاية ومعارضيها، ولعل من مظاهر المشاركة اتاحة الفرصة للقوى الشعبية التي يمثلها الناظر الصادق ضو البيت أن تنظم استقبال ضيوف الصالون مع ممثلي السلطة الاقليمية والسهر على حاجاتهم. كما ان رؤية الوالي بدت قريبة من الاعتراف بالاخطاء والرغبة في تصحيحها، فقد تحدثت معه حول جملة أحداث وقعت في محلية كبكابية، أكد أنه لا يتدخل في الحق الخاص كيفما كانت تصرفاته السياسية والانسانية تجاه الضحايا. أما على صعيد المستقبل فقد دعا أبناء وقيادات دارفور في المعارضة والحكومة عبر الصالون أنه آن الأوان لتجاوز المرارات والانتباه إلى دارفور كتحد. ثم قدم أطروحته بخلفية أنه يتمتع بخبرات معلم سابق يعرف كيف يتعامل مع الزمن في طرح القضايا التي تسهم في الحل، وايمانه بحكمة أن (ليست الغاية أن نتفق في كل شيء، ولكن الغاية أن لا تختلف). في القضية موضوع الحوار حول السلام والتنمية، بعد استعراضه آراء مؤيدة لضرورة السلام أولاً، وآراء أخرى تؤكد انعدام التنمية تاريخياً في دارفور، قال ان السلام والتنمية متلازمان يستند كل منهما على الآخر وليست بالوسع الفصل بينهما وكل منهما يكمل الآخر، خاصة وان الرأي العام الدارفوري الراهن مع السلام، وان دارفور بها من الموارد البشرية والبيئية ما يمكن الدارفوريين من بناء السلام وتأسيس التنمية لأنفسهم ولغيرهم. من ناحية أخرى وجه الوالي، نقداً ذاتياً لأنماط التنمية القائمة بدارفور اليوم باعتبارها خدمية تحتاج الى دفعات قوية من التنمية الانتاجية، على أن النقد الأوسع نطاقاً فقد اثاره الوالي حول ان النزاع في دارفور وفر فرصاً سياسية وتنفيذية للدارفوريين، ولكن تلك الوظائف لم تكسبهم رضا مواطنيهم، ولم تحفظ لهم احتراماً في الولايات الأخرى. (3) لعل الإفادات التي تفضل بها الوالي والمشاركون غيره، والاسئلة والتساؤلات المتعددة هي ما جعلت وثيقة الدوحة في محكمة الصالون. ان الشعور العام في دارفور ان الوثيقة أتت لخير دارفور، ولها أن تجد مساندة أهل دارفور، ولعل إفادات ممثلي السلطة الاقليمية لدارفور، ابراهيم محمود مادبو وزير الثقافة والإعلام وتاج الدين بشير نيام وزير إعادة التعمير والتنمية والبنية التحتية أكدت امكانيات الوثيقة لاستيعاب التحديات التي أثيرت في الصالون من خلال الأسئلة الصحفية. لقد جاءت وثيقة الدوحة بعد مخاضات عسيرة، بعضها انتهى كما الحمل الكاذب، ولكن كل تلك المحاولات الفكرية والمدنية والسياسية في المنتديات والحوارات والتفاوضات العلنية منها والسرية، أفضت الى الخروج بوثيقة الدوحة التي قد تكتمل كاتفاق شامل بعد التفاوض حولها مع كل الأطراف التي ماتزال مسلحة. لقد قدمت الوثيقة الأطر النظرية لتجاوز الأزمة بدارفور في اتجاهين. أولهما بناء دارفور مجدداً بمكوناتها الولائية والاثنية والثقافية والاقتصادية بمعايير دولية، وثانيهما تحديد العلاقات الدستورية القانونية الادارية بين دارفور كمكون اقليمي، والحكومة الاتحادية بما يحفظ للاقليم خصوصيته وحقه في المشاركة الاتحادية. لعل ما أكده الوالي كبر، والوزير نيام من علاقة وثيقة بين المستويين الاقليمي والولائي بدارفور، بنصوص الوثيقة والنصوص الدستورية الأخرى، يوفر انطباعاً مبدئياً، ان المشوار الطويل الشاق نحو السلام، قد أخذ يتناقص، أو كقول احدهم ان الخطوة الأولى الصحيحة نصف الطريق نحو الحل. ان الحقائق التي تمثل تحديات امام الوثيقة متعددة، ذكر منها الوزير مادبو أربعة، أولاها انجاح تطبيقات الوثيقة بما في ذلك الترتيبات الأمنية واعمال العدالة الانتقالية، وثانيها وفاء الحكومة والمجتمع الدولي بالتزاماتهما المالية، وثالثها استكمال العملية السلمية بالتفاوض مع الاطراف غير الموقعة على الوثيقة، ورابعها استعداد دول الجوار وخاصة جنوب السودان في استخدام قدرات الحركات الدارفورية في اجهاض العملية السلمية لدارفور. في مقابل تلك التحديات فان الصورة حول محاكمة الوثيقة قد تكتمل بالتفاؤل الذي ابداه مجددا الوزير نيام كبير مفاوضي حركة التحرير والعدالة، بالقول ان استجابة الاطراف المسلحة للتفاوض سيكون قريباً وان السلطة الاقليمية على استعداد للتنازل من اجل ان يكون السلام ممكناً في الفترة الانتقالية وقبل أن تكتمل اجراءات تحول الحركة الى حزب سياسي. (4) وتبقى كلمة لأهل الفاشر، المدينة التي تأسست قبل قرنين من الزمان (1792)، وهي تقع ضمن اقدم عشر مدن افريقية، وفي مربوعاتها وأحيائها جمعت من اطراف القارة مختلف الاثنيات واصبحت بهم بلداً للتنوع، تعرف كيف تؤيد السمح والعديل من الاقوال والافعال. لقد اصبحت الفاشر اليوم ومجددا عاصمة اقليمية لدارفور وعليها واجبات، ليس أقلها اهمية تضميد الجراح، وطرح المرارات، والتمهيد للعدالة الانتقالية بتشجيع الحوار بين مدن دارفور وقراها وريفها، وهي اخيرا عادت عاصمة للتجارة والاستثمار على تخوم الصحراء الكبرى في غرب القارة وشمالها. انها بوثيقة الدوحة تستطيع استعادة مبادرتها الموءودة بالادارة الأجنبية القاهرة، والادارة الوطنية غير الحكيمة، وبقدرة تستطيع اعادة العلاقات الثقافية والاستثمارية بين سودان وادي النيل وغرب افريقيا وشمالها. ان الفاشر مدينة كل الافارقة وكل السودانيين وكل الدارفوريين، وبذلك فانها في مرحلة ما بعد وثيقة الدوحة لا تملك الا ان تنجح وتستكمل مشوار التاريخ العريق. هذه مرحلة جديدة من عطاء المدينة القديمة في نبل، وفي أجواء تبشر بالديمقراطية وحقوق الانسان والحريات، فلا أقل من ان تعلن الفاشر عن مبادرتها الاهلية لانهاء النزاع بين الاطراف، وذلك بتوجيه نداءات السلام للأطراف كلها، تؤكد بها نداء صالون الراحل سيد أحمد خليفة، وان يعمل الجميع معاً من أجل سودان مدني متنوع، ديمقراطي لا مركزي فيدرالي.. ٭ تنويه: في مقال السبت الماضي ورد خطأ اللغة النوبية بدل اللغة العربية في العملية الطباعية، وللتصويب تقرأ الجملة صحيحاً (من بين اللغات السودانية فإن اللغة العربية أضحت هي لغة التخاطب في السودان بقوة دفع ذاتي...) والعتبى للبروفسير الأمين أبو منقة حتى يرضى.. [email protected]