يبدو أن ارتفاع سعر الدولار في مقابل الجنيه السوداني لم يعد هاجسا يؤرق مضاجع الجميع جراء زياداته المستمرة يوما إثر آخر ورسمه لجملة من الهواجس على مستقبل اقتصاد البلاد، فقد جعلته وزارة المالية بحسب ما جرى على لسان وزيرها بالبرلمان أنه ثالث أضلاع مثلث الاقتصاد السوداني بجانب فقدان عائدات نفط الجنوب وتجنيب الأموال من قبل بعض الوحدات الحكومية رغم ما ظلت تررده الوزارة والبنك المركزي في الفترة السابقة على الدوام أن ارتفاع سعر الدولار مؤقت وأن الزمن كفيل برجوعه غير أن ثمة سؤال موضوعي يتوجب على المالية والبنك المركزي الانبراء للإجابة عنه قوامه لماذا التردي المضطرد في سعر صرف الجنيه في ظل ما كانت تنعم به الخزينة العامة من تدفق موارد أجنبية منذ بداية تصدير النفط السوداني نهاية تسعينيات القرن المنصرم ؟ غير أن مختصين يرون أن العلة الأساسية التي قادت إلى ما وصل إليه سعر صرف الجنيه من انحفاض في مقابل الدولار وصوفوه بغير المسبوق لاسيما في الفترة الأخيرة تكمن في قلة الاحتياط من الأخير بالبنك المركزي علاوة على ضعف عجلة الإنتاج بالمشاريع الزراعية والصناعية وتراجع الصادرات غير النفطية بصورة عامة بجانب فقدان جزء كبير من إيرادات النفط بعد انفصال الجنوب بالإضافة لقلة التناغم والانسجام بين السياسة المالية والنقدية بالدولة. وعابوا على المالية تبريراتها لما يعيشه الاقتصاد من أزمة بارتفاع سعر الدولار لجهة أنها لم تأت بغتة وتساءلوا عن دورها حيال تردي سعر صرف الجنيه في مقابل العملات الأجنبية . وألقى المحافظ الأسبق لبنك السودان المركزي الشيخ سيد أحمد للصحافة باللائمة على إدارة البنك المركزي وأعتبر تبريرها لارتفاع سعر صرف الدولار غير مقبول لجهة أن انفصال الجنوب معروف مسبقا والكل يعلم إفرازاته التي تستوجب الالتفات والاحتياط منذ فترة كافية لتلافي آثارها السلبية على اقتصاد الشمال وعن الحلول التي يمكن إتباعها للخروج من مأزق ارتفاع سعر صرف الدولار يرى الشيخ أنه من الصعوبة رسم خارطة طريق في ظل غياب المعلومة والضبابية التي خيمت على ماهية الأسباب الحقيقية لتدهور سعر صرف الجنيه، وزاد أنه لا أحد يجزم بما يملكه المركزي من احتياطي من الدولار وأن هذا الوضع يدل بأن القائمين على أمره ليس لهم استعداد لإشراك أحد في حل معضله وأضاف أن اللجوء للتمويل بالعجز يقود إلى التضخم الذي بدوره يلقي بظلاله السالبة على انخفاض سعر صرف الجنيه. وختم إفادته إلينا بأنه ما لم تتم اتباع حزمة من القرارات الاقتصادية الراشدة في ظل عدم اليقينية التي تربعت على أفئدة أصحاب المال فلجأوا إلى الاحتفاظ بها في شكل دولار حفاظا على قيمتها لن يتوقف تدهور سعر صرف الجنيه وسيستمر الحال على ما هو عليه من ارتفاع للدولار. ويرى أستاذ الاقتصاد والتمويل بجامعة الأحفاد الدكتور السماني هنون أن التراجع في سعر صرف الجنيه السوداني في مقابل الدولار مرده إلى فقدان جزء كبير من عائدات النفط بعد الانفصال بجانب تراجع الإيرادات غير النفطية وزيادة نسبة الواردات مما قاد لنمو كبير في السوق الموازي في مقابل السوق الرسمي، ووصف هنون السياسة النقدية بعدم وضوح المعالم بجانب افتقارها للانسجام والتناغم مع السياسة المالية وأبان أن الدولار أصبح تجارة رائجة ومصدرا للمضاربة والتكسب السريع وأن المخرج من نفق أزمة انخفاض سعر الصرف برأي هنون يكون على يد الارتقاء بالصادرات غير النفطية خاصة المعادن والزراعة بشقيها النباتي والحيواني مع ضرورة ترشيد الاستيراد وحفز الاستثمارات الأجنبية مع اتباع السياسة في تسيير الاقتصاد لا للإجراءات الأمنية من خلال تطبيق حزمة اقتصادية تستهدف استقرار سعر الصرف قوامها اعتماد آلية السوق في العرض والطلب دون تدخل من الدولة بشكل مباشر مع ضرورة حفز الإنتاج الموجه للصادر . في وقت وصف مختصون لجوء وزارة المالية وإدارة البنك المركزي إلى حسم المضاربين في السوق الموازي عبر آلية الإجراءات الأمنية والملاحقة بغير المجدي لجهة أن المخرج من مأزق تدهور سعر صرف الجنيه أمام العملات الأخرى يكمن في ضخ المزيد من العملات الحرة في أوردة وشرايين المواعين الاقتصادية والمصرفية والالتفات للنهوض بالمشاريع الإنتاجية وعزوا انخفاض سعر صرف الجنيه إلى تحويل كمية كبيرة من استحقاقات العمال الجنوبيين بعد الانفصال إلى دولار بجانب دخول كتلة نقدية كبيرة من الجنوب إبان عمليات استبدال العملة أخيراً، مما زاد الطلب على الدولار وخلق نوعاً من المضاربة في السوق الموازي كما زعم البنك المركزي. وأكدوا أن ارتفاع سعر الدولار لن يكون مؤقتاً في ظل استمرار قلة الاحتياطي من النقد الأجنبي بالبنك المركزي وضعف عجلة الإنتاج بالمشاريع الزراعية والصناعية، وتراجع الصادرات غير النفطية، وقلة التناغم والانسجام بين السياسة المالية والنقدية بالدولة. ويقول عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الدكتور صدقي كبلو إنه في ظل عدم قدرة السياسة النقدية على السيطرة على النقد الأجنبي والمحلي بالبلاد لن تجدي الملاحقات والإجراءات الأمنية في إرجاع سعر صرف الجنيه السوداني إلى ما كان عليه أو على الأقل استقراره طالما أن التضخم يعمل آلته ويوزع جنوده في ربوع الأسواق بجانب عدم القدرة على رسم ووضع سياسات مالية ونقدية متناغمة ومنسجمة والتي بدون الوصول إليها لن يتوقف تدهور سعر صرف الجنيه السوداني وتراجعه مقابل العملات الأخرى. ودعا لترشيد الطلب على العملات الحرة بالاتجاه لاستيراد السلع الضرورية وفق تخطيط واستراتيجية واضحة المعالم، بجانب العمل على إعادة الروح للمشاريع الزراعية والصناعية وإيقاف الصرف البذخي. يذكر أن وزارة المالية شاب قراراتها في الفترة الأخيرة حيال ضبط سوق النقد الأجنبي ما يمكن وصفه بالتخبط دون مراء فتارة تقدم على تحرير سعر الصرف وفتح الباب على مصراعيه لكل طالبيه وعارضيه من الصرافات والمصارف وقبل أن يستمر قليلا توقف ضخ النقد الأجنبي للصرافات وتحصر منحه على المصارف ليصبح الجميع في حيرة من أمرها دون الوقوف على خطوات وخطط ملموسة لزيادة غلته عبر الإرتقاء بالناتج المحلي .