انشغل الرأى العام طوال العام المنصرم بتصريحات مسؤولين كبار فى الدولة، وانباء فى الصحف اليومية، عن ممارسات تلاعب وتآمر ونهب للأموال العامة فى عدد من المرافق والمؤسسات بما فيها بعض الوزارات، يصدق عليها جميعاً قطعا أنها مخالفات جنائية تقع تحت طائلة القانون الجنائى والقوانين إلتى تنظم الإجراءات المالية والمحاسبية فى الدولة. كما بح صوت المراجع العام فى تقاريره السنوية حول تلك المخالفات الجسيمة، ورفض عدد من الوزارات التعاون مع ديوان المراجع العام ومده بالمعلومات المطلوبة، أو الإجابة عن إستفساراته الموجهة إلى مؤسسات الدولة المختلفة حول المخالفات المالية، والصرف خارج الميزانية، وتجنيب الأموال لدى بعض الوزارات، وإبرام العقود الوهمية، أو لصالح المسؤولين أو لمن تربطهم بهم علاقات إجتماعية ومصلحية متنوعة. عوداً على بدء ، ولفت إنتباهنا أن السيد وزير العدل أعلن فجأة صرخة داوية أنه بصدد نقل مقر عمله إلى نيابة الثراء الحرام، يهدد ويتوعد بنشر أسماء جميع المتهمين بالإستيلاء على المال العام، وإستدعاء جميع مديرى البنوك لإعلان أسماء (الجوكية) المتهمين بتلك المخالفات تطبيقاً لقانون حماية المال العام، الذى يرى السيد الوزير أنه من أفضل التشريعات! مشيراً إلى توفر الآليات المتمثلة فى النيابات المتخصصة، كما ناشد ( المواطنين) بالتبليغ عن أية معلومات تدل على وجود ثراء حرام أو مشبوه، كى يتسنى لسيادته تطبيق مبدأ" من أين لك هذا" ووجه الجمهور بالحضور إليه فى مكتبه ببرج العدل. هذه لا شك بدعة لا سابق لها فى مطالبة المواطن المغلوب على أمره أن يتقدم بدلائل إلى المسؤول الأول عن تطبيق القانون عن عدم مشروعية ثراء الآخرين!! كما طالب الوزير أن يذهب المال العام المسترد إلى مرضى السرطان وغسيل الُكلى والفقراء والضعفاء ( الأهرام بتاريخ 3 يوليه 2012)!؟ هذه الصحوة المفاجئة للسيد الوزير تذكر بثورة نميرى الإسلامية وقوانين سبتمبر ومحاكم " العدالة الناجزة"، وكأنما العدالة درجات بعضها ناجز وعادل، والآخر آجل، وفق مبررات سياسية يقدرها المسؤولون متى شاءوا ، ليس القانون أو المحاكم أو البرلمان أو الحكومة؟ سؤالنا الحائر هو ما الجديد فى كل هذا فمنذ ثلاثة وعشرين عاماً خلت تحت النظام الحالى ظلت لنا وزارة عدل، تعمل تحتها نيابات من كفاءات قانونية مؤهلة، وشرطة تقوم بالتحرى فى كل ما يعرض أمامها، وتقارير من المراجع العام، والمصرف المركزى، كان بإمكانها جميعها أن توضح أين يذهب المال العام. وأخيراً، محاكم جنائية ومدنية مختصة بالنظر فى كل ما يعرض أمامها من دعاوى وقضايا وإتهامات، وحقوق للمتهمين للإلتجاء إلى محامين اكفاء للدفاع عنهم وضمان أن يحاكموا محاكمات عادلة وفق الدستور والقانون.هكذا ظل الحال عموماً فى بلادنا منذ عقود، سواء كان الفعل احتيالاً، أو اختلاساً، أو تزويراً، أو خيانة أمانة، أو غشاً، أو سرقة، أو خلافهم، أياً كان موقع الشخص المتهم بإرتكاب الجريمة، وهذا ما ينبغى ان يكون عليه الحال فى جميع الأوقات. من هنا لا ندرى ما الجديد فى إعلان طوارىء وزارة العدل، ورغبتها المفاجئة فى كشف الأوراق القديمة؟ بل والإستنجاد بالمواطن، ضحية كل هذه الممارسات، لكشف جرائم وضعت من أجلها القوانين والنيابات والشرطة والمحاكم ودواوين المحاسبة والمراجعة منذ أكثر من قرن من الزمان؟ إن لم يكن الغرض من هذه" الصحوة العدلية" ، بدعوى أن العدالة آتية لا محالة ، وأن الفرج قريب، وأن ما يتم إتخاذه من إجراءات جنائية معلنة سوف تقود المجرمين جميعهم ( مهما علا شأنهم) إلى السجون، وأن الإقتصاد سوف يتعافى، وينتعش الصادر، ويرفع سعر العملة المحلية، وتزدهر الصناعة ، والزراعة، والوارد، وماعلى الموطن سوى أن يصبر( قليلاً) حتى يمكن الحكومة من كفالة رغد العيش والأمن والطمأنينة !!. فى رأينا المتواضع أن ما أثاره السيد الوزير من تصريحات نارية ليست سوى جرعات مسكنة استهدفت مساندة الموقف المعلن للحزب الحاكم، أنها فقط بضعة أشهر سيعم بعدها الرخاء وينعم الحال، كى ينام المواطن غرير العين هانيها.غير أن ثمة مسألة جوهرية عنت لنا أن نذكرها فى هذا السياق بالنسبة لمسؤوليات ومهام وزير العدل، بصفة عامة، لا الوزير الحالى، إزاء الملف الجنائى، وهى مسألة سبق أن أثرناها فى مقال سابق ، وسبق أن تم تناولها فى تاريخنا السياسى، دون إتخاذ ما نراه الموقف السليم. فالتراث الدستورى الذى سار عليه السودان هو أن يكون هناك نائباً عاماً " يكون بحكم منصبه وزيراً للعدل"، أى أن وزير العدل هو ذاته النائب العام. هذا الأمر عالجته معظم الأنظمة الديمقراطية بالفصل بين المنصبين، فوزير العدل رجل سياسي، غالباً ما يكون منتمياً إلى الحزب الحاكم، أو عضواً فى الأحزاب السياسية المشاركة فى ائتلاف حكومى. بهذه الصفة يكون هو المستشار القانونى للحكومة، والمسؤول عن إعداد مشروعات القوانين، وتعديلاتها، وعن نشرها فى الجريدة الرسمية، وإبداء النصح والفتاوى، وإبرام العقود المحلية والدولية، والدفاع عن الحكومة أمام المحاكم وهيئات التحكيم الوطنية والعالمية. أما الملف الجنائى برمته فيقع فى دائرة إختصاص النائب العام، الذى قد يكون فى مرتبة وزير له ذات مخصصاته، إلا أنه موظف مستقل غير حزبى، لا يتبدل مع التغييرات الوزارية، بل يشغل منصبه بصفة مستقلة، تماماً كما المراجع العام. الحكمة من ذلك تكمن فى ضمان الحيدة والعدالة فى تناول الملفات الجنائية، دون تحيز أو محاباة ضمانا لبسط قيم العدالة، مهما كان رأى الحكومة أو الحزب فى الدعوى المرفوعة أو الإتهام الموجه ضد أى من كان. تكتسب هذه الحجة مزيداً من القوة إذا ما اخذنا بعين الإعتبار أن قوانين الإجراءات الجنائية المتتالية فى السودان، بما فيها قانون الإجراءات الجنائية 1991 ( المادة 58)، تمنح الوزير سلطة إيقاف أي إجراءات جنائية ضد أى شخص، وفى أى وقت منذ بداية الإجراءات وحتى النطق بالحكم، ويكون قرار الوزير فى هذا الصدد نهائياً لا يجوز الطعن فيه. سلطة كهذه لا شك قصد منها إيقاف الإجراءات الجنائية خدمة للمصلحة العامة، دون ميل أو تحيز مع أو ضد أى طرف متهم بجريمة ما . غير أنه من الواضح أنها سلطة واسعة ونهائية، كما أن الحجة القائلة إنها تنحصر ، أو ينبغى أن تنحصر، فى مراعاة المصلحة العامة عند ممارستها، حجة تضعف فى مواجهة حجة أخرى أن القضايا التى يجوز وقفها تكون فى غالبها تتعلق بأمور سياسية أو شخصية. وبل هى إلى الإعتبارات السياسية أقرب، وأنها سلطة يمارسها حصراً ونهائياً وزير العدل، رجل السياسة أولاً، وليس القانونى المستقل سياسياً وحزبيا،ً والذى خبر المنصب بصفته موظفاً عاماً سنوات عديدة عرك خلالها العمل القانونى، واكتسب الخبرة اللازمة لممارسة تلك السلطة الإستثنائية عند الضرورة الملحة. خلاصة قولنا، إننا نرجو للوزير الحالى التوفيق والسداد فى معركته المعلنة ضد الفساد والمجرمين من موقع عمله فى نيابة الثراء الحرام،ورجاء منا أن يترك المواطن فى حاله فى امر البحث عن مكامن الثراء الحرام أومن أين لك هذا؟ وامنياتنا ألا يطغى " الصالح العام" فى إيقاف إجراءات التحقيق ، كما تشهد الشواهد للعيان،دون إيراد التفاصيل والأمثلة. حمى الله شعبنا من قاهريه وسارقى قوته، والله ولى التوفيق.