خلال الفترة الانتقالية اعتمد البرلمان تقريراً لاحدى اللجان اعتبر قتلى الحرب بين الشمال والجنوب جميعاً شهداء، فى خطوة لافتة لمعالجة جراحات الحرب والتمهيد لمصالحة وطنية لم تتم لاسباب شتى، وكان عدم اكتمال تلك المصالحة وتنفيذ البنود المتعلقة بها احد اسباب الانفصال، حيث لم تتم مكاشفة ومصارحة واعتراف بالحقيقة، ولم تدخل العلاقات بين الشمال والجنوب فى مرحلة العدالة الانتقالية، وفى ذلك الوقت بذلنا جهداً نظرياً وعملياً من خلال نشاطنا فى لجنة السلام والمصالحة الوطنية بهدف استشراف إمكانية أن يظل السودان موحداً، بما فى ذلك طرح مبادرة الخيار الثالث «المبادرة قدمها حزب البعث السودانى وتبنتها كتلة التجمع فى البرلمان» وادراجها فى قانون الاستفتاء، بحيث تكون هنالك ثلاثة خيارات للاستفتاء «وحدة، انفصال، كونفدرالية» لكن مع الأسف كان واضحاً ان الطرفين الرئيسيين المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية قد يمما وأبحرا منذ وقت مبكر نحو الانفصال، وهذا الوضع كشف بوضوح أن أياً من الطرفين وفى غياب غالبية القوى السياسية السودانية لم يكن يمتلك استراتيجية محددة تجاه تقنين الاوضاع، سواء أكان ذلك تجاه الوحدة او باتجاه الانفصال، وأن أياً من الطرفين لم يكن يطيق صبراً يتيح أية فرصة لمبادرة الطريق الثالث. وبسهولة واستسلام ترك الطرفان الاختلافات حول تطبيق اتفاقية السلام تطغى على ما عداها، ويتحول الصراع حولها الى الشغل الشاغل للطرفين، وتراكمت اختلالات التطبيق لتصبح موجهاً للعلاقة بين الطرفين، ولتكون فيما بعد جداراً من عدم الثقة، تراضى الطرفان ضمنياً للتعايش معه، واصبح شعار الوحدة الجاذبة واعادة توحيد البلاد على اسس جديدة محل سخرية من الطرفين، وتباعدت المواقف مع بداية العد العكسى للانفصال، حيث تراءى للطرفين أن الآخر عبء ثقيل يجب التخلص منه، وكان الانفصال اقرب وأسهل الطرق، وهكذا أضاع الاختلاف والتشاكس حول تطبيق اتفاقية السلام الشامل كل الفرص والمبادرات التى كان من الممكن أن تنقذ ما يمكن انقاذه، مثل مبادرة الطريق الثالث، واقتراح تكوين لجنة قومية لمتابعة تنفيذ اتفاقية السلام الذى تقدمت به كتلة التجمع الوطنى الديمقراطى، أو عقد المؤتمر الدستورى بمشاركة كافة القوى السياسة الذى كان يتبناه حزب الأمة، او المبادرة السودانية من الحزب الاتحادى الديمقراطى. واتضح فيما بعد ان تصورات الطرفين لم تكن فى محلها وأن تكلفة الانفصال باهظة مثلما كانت فاتورة الحرب، وان اتفاقية السلام لم تمنع الطرفين من العودة مرة اخرى الى القتال بعدة وعتاد اكبر، ونوايا من الطرفين تتجاوز الفعل الدفاعى المشروع بهدف الحفاظ على الحقوق الى العدوان الصريح، وتفجرت الاوضاع فى جنوب كردفان والنيل الازرق، واشتعلت الحدود بين الشمال والجنوب، ودفع المواطنون فى الدولتين ثمن ذلك من ارواحهم وممتلكاتهم، وتدهورت الاوضاع الاقتصادية فى البلدين بسرعة لم يتوقعها الطرفان، وشارفت على الانهيار الكامل، ولأول مرة منذ سنوات تظهر الاوضاع الاقتصادية فى أضابير وتقارير الاجهزة الامنية باعتبارها مهدداً لوجود النظام، وأكدت على ذلك الاحتجاجات والتظاهرات التى عمت ارجاء البلاد دون استثناء، والتى ينتظر تجددها اذا لم تتحسن الاحوال، كما ان الاوضاع فى جنوب السودان فى اسوأ حالاتها، فالدولة الوليدة اضافة الى افتقارها للبنية الأساسية وتوقف اى نشاط تنموى او استثمارى، فقد ارتفعت فيها اسعار المواد الاستهلاكية والوقود والمياه واضطرب الاداء السياسى للدولة، فبدلاً من البحث عن حلول لمشكلاتها فى الجوار الافريقى والعربى، قفزت الى تطبيع كامل مع اسرائيل، مما ينبئ بمشكلات اكبر حول المياه فى المستقبل القريب، وربما يكون فى ذلك ما يهدد الأمن المائى للسودان او مصر، وقد تدخل اطراف اخرى فى الصراع، مما يؤكد ان التوتر سيهيمن على علاقات الشمال والجنوب لفترة قد تطول، وسينعكس هذا التوتر وتداعياته على كل الاقليم، ولا طريق أمام الدولتين غير التوصل الى صيغة للتعايش فى سلام وتعاون مشترك يعود بالفائدة على المواطنين فى البلدين، وبما يسمح بالتداخل والتمازج الاجتماعى والتواصل بين البلدين، وعلى الاخص فى مناطق التماس بين الشمال والجنوب حيث يعيش حوالى ستة ملايين مواطن من البلدين، وتنظيم حرية انتقال البضائع والسكان، واعتماد صيغة الحريات الاربع لمواطنى كلا البلدين، ولا بد من الوصول الى علاقات طبيعية ومرنة تراعى خصوصيات الاوضاع فى كل بلد، دون ان ننسى ان السودان ينبغى ان يكون قادراً بارادة واعية على القيام بدور رعاية ومساعدة جنوب السودان، وعليه أن يقدم الخبرات الشمالية للمساعدة فى بناء الدولة فى الجنوب، بدلاً من القلق لتنامى العلاقات بين الجنوب وإسرائيل، ووجود اسرائيل فى الجنوب سيكون السبب الوحيد لعدم حدوث استقرار بين البلدين، وسينتهي أي أمل في أن يعود البلدان الى طريق بناء علاقات متميزة، وربما انعدمت فرصة التوصل الى علاقة خاصة، قد تكون الاتحاد او الكونفدرالية، وعلى الأقل علاقات على غرار العلاقات مع إريتريا و إثيوبيا، أو مثل مصر أو تشاد.