بالأمس رحل رئيس الوزراء الاثيوبي ملس زيناوي تاركاً خلفه فراغاً كبيراً في بلده وفي جواره واقليمه الافريقي فقد كان ذا قبول وانجاز كبيرين. ويكفي أننا هنا في السودان قد ذرفنا على فقدانه الكثير من الدموع رسمياً وشعبياً كما حدث بالنسبة له في وطنه اثيوبيا تماماً ولذلك كله ما يبرره ويدعو إليه بالنظر إلى فترة حكمه التي امتدت إلى أكثر من عشرين عاماً وسعد فيها اثيوبيا والسودان بحسن الجوار والعلاقات المنتجة والتكامل في المصالح والأمن والاستقرار بل تطورت الأحوال أكثر لتشمل طرق العبور السريع والوصول إلى المنافذ والموانئ البحرية من جانب السودان والمدن التجارية الحرة والسياحة والعمل ...الخ. فقد قام السودان بما في وسعه ويجعل العلاقات بين البلدين ممتازة ومستقرة. ومن جانبها فان دولة اثيوبيا الحديثة التي ولدت في عهد الراحل زيناوي لم تقصر بل مشت على طريق الرئيس السابق (مانقستو) بالاستيكة - كما يقولون. فقد كان عهد مانقستو هايلي ماريام عبئاً على بلده (اثيوبيا) كما كان عبئاً وحملاً ثقيلاً على جواره (جمهورية السودان) من ناحية أخرى. إذ كان مواطنوه يرزحون تحت القهر والفقر والانحياز إلى أحد المعسكرين المتصارعين عالمياً وهو المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي. فقد كان مانقستو منحازاً إلى الأول بالكامل مما حرم بلده من الكثير من المزايا التي كانت تتمتع بها اقليمياً وعالمياً.. وتجلب لها الكثير من المصالح والمنافع.. بل كان رده على الحقوق الارترية بالسلاح والحرب الحال الذي استمر لزمن طويل حتى رحيله ووصول زيناوي للسلطة والوصول إلى حل بالتي هي أحسن وان لم يخلُ الأمر من توترات وتراشقات بالسلاح في بعض الأحيان. أما بالنسبة إلى العلاقات بين اثيوبيا والسودان في عهد مانقستو البغيض فحدث ولا حرج. ولعل أول ما يشار إليه من ذلك هنا إلى جانب توقف المصالح والمنافع إلى حد كبير هو ان حركات التمرد الجنوبية في عهده كانت تنعم بالرعاية وحسن الضيافة إلا ان ذلك كله صب في آخر المطاف لصالح حركة العقيد قرنق دي مبيور المعروفة بالحركة الشعبية لتحرير السودان وجيشها الشعبي التي كانت هي الأخرى منحازة بمبادئها وولائها يومئذٍ إلى المعسكر الشرقي. ومن تلك النقطة أي - نقطة احتضان ورعاية الحركة الشعبية كانت كل متاعب جمهورية السودان - الدولة المجاورة فضلاً عن المتاعب الأخرى. ذلك ان ما بين السودان واثيوبيا كدولتي جوار ميزتهما الجغرافيا والطبيعة والعادات وتداخل الثقافات الكثير. فقد ظلت الحركة الشعبية خنجراً في خصر الأنظمة الحاكمة في السودان وشعبه لسنوات طويلة جاوزت العشرين عاماً حتى انتهى الأمر بعد اتفاق السلام الشامل الCPA إلى انفصال ودولتين بدأت العلاقة بينهما متوترة. إلا أنه بعد ذلك وبالفعل مشى الراحل ملس زيناوي على طريق مانقستو وتاريخه «بالاستيكة» في الداخل الاثيوبي والجوار الافريقي والسودان بصفة خاصة. فقد كان السيد ملس رجل سلام وعلاقات منتجة وفاعلة. وهنا يذكر له دوره الافريقي والاقليمي في اشاعة السلام والمحبة والتعاون ودوره الخاص في تحقيق السلام في السودان مع الحركة الشعبية حيث لعب دوراً بارزاً في ذلك منذ البداية وحتى النهاية أي منذ مبادرة دول الايقاد وحتى ما قام به بعد ذلك في اطار المجموعة الافريقية والأمم المتحدة وله اليوم في الحدود بين أبيي السودانية ودولة جنوب السودان قواته التي ترعى الاستقرار وعدم التدخل. وليس بعيداً عن هذا بل مكملاً له ان المفاوضات بين الطرفين (حكومة السودان وحكومة جنوب السودان) حول المسائل العالقة والحساسة تجري في عاصمة بلده (أديس أبابا) وبين يديه وناظريه حتى رحيله. ثم ان الشيء نفسه يمارسه في أمور أخرى ليست أقل حساسية كملف مياه النيل الذي يشغل دول منبع النيل ومصبه في وقت واحد وهي مسألة معقدة. لهذه الأسباب وغيرها نقول ان السيد زيناوي رئيس الوزراء الاثيوبي السابق رحل ورحل معه الكثير الذي يذكر ويظل في البال وتلك حقيقة إلا أن الأمل معقود على ما ترك زيناوي خلفه من تراث وميراث يجعل من يخلفونه يقتفون أثره في ظروف اثيوبية داخلية وظروف اقليمية وعالمية خارجية فضلاً عن جوار وتشابك مصالح ومنافع. ان للمتغيرات آثارها ومردوداتها بَيْدَ أنه للضرورة أحكامها وترتيباتها ومنها الرحيل المفاجئ أو الموت الذي هو في الرقاب. والذي نتطلع إليه اليوم وغداً أن اثيوبيا (ملس زيناوي) لن تعود إلى اثيوبيا (مانقستو هايلي ماريام) وذلك تبعاً للمتغيرات والمستجدات التي طرأت على الصعيد العالمي والاقليمي والمحلي في وقت واحد وبخاصة الصعيد الاثيوبي السوداني الذي استجد فيه الكثير مما ينفع الناس ويخدم مصالحهم. لقد رحل ملس زيناوي وبقيت ذكراه ومنجزاته وأعماله الطيبات عالقة في أذهان الجميع وستظل كذلك. فالعزاء كل العزاء لشعبه ووطنه وأسرته وكل عارفي فضله في محيطه الاقليمي والدولي.