نقف أمام الجماجم المعلبة بتفاصيل استراتيجية التقسيم لأراضى أكبر دولة ناطقة بحرف الضاد من حيث المساحة، واستراتيجية تكميم رؤاها المستقبلية، لنتساءل في زمن القبح السياسي من يمثل العزاء الجميل الذي يتلاشى بأبجديته تكريس هشاشة الوجود السوداني؟ ولكنك عزيزي القارئ تُصدم حينما تكتشف أن إجابة هكذا تساؤل تستحيل معها إما الى «نعامة» تدس رأس قلمك في رمل حقيقة الأحزاب، أو مجرد «شامبانزى» تتسلق جدار اللغة خلسة لتختبئ خلف الشجب والاستنكار وألفاظ أخرى عادة ما تضع جامعة الدول العربية على صفيح بارد في ما يخص قضايا أمتها ومصير شعوبها..!! اننى احتاج الى المزيد من الأصابع لراحتي حتى أشير إلى أبطال الكوميديا السوداء في مشهد بؤسنا السياسي..!! ولكني أشير أولاً إلى الفاصل الأهم في تاريخ السودان الحديث، وهو فاصل المشير سوار الذهب الذي استمر لفترة قصيرة بعد انتهاء فترة النميرى، حيث جاءت الفرصة على طبق من ذهب لكل الطامعين في الجلوس على كرسي رئاسة السودان، وقد التقوا مع جميع الأحزاب على طاولة النقاش البناء ما بين الشماليين والجنوبيين الذين لم تكون لهم أطماع سلطوية تذكر، ولم يكن التقسيم هاجساً بالنسبة لهم، وكانوا يناقشون دوما ضرورة بناء الإنسان السوداني. ولكن ما الذي حدث بعد فترة المشير سوار الذهب؟ الذي حدث أن صراع المنفعة أعاد اكتشاف نفسه، وحاولت الأحزاب وضع النقاط على حروف الوزارات التي تدر ذهباً «لبطانتهم» التجارة، المالية. وفى مقابل ذلك كان هذا الصراع الذي استمر شهورا قد القي بظلاله على الشارع السوداني الذي عانى الأمرين، وقد كان مهيئاً لمرحلة إنقاذ أخرى. ولذلك فهمت- أي الأحزاب- أنها قد فوتت على عقولها فرصة مثالية تأخذ من خلالها «دشاً» بارداً يستعيدون به وعيهم السياسي..!! وها هم الآن يعيدون هيكلة أفكارهم مرة أخرى عبر الانتخابات والسودان يمر بهذه المرحلة المفصلية في تاريخه. ولكن انتخاب هذه المرة يختلف عن سابقيه شكلاً ومضموناً. هذه المرة ثمة رغبة لم تأتِ اعتباطاً تداعب استراتيجيتها حلماً قديماً للمستعمر يتجدد الآن على الطريقة الأمريكية، التي بدأت عملية التقسيم على أرض الواقع، وذلك عبر انتقائيتها المفرطة في إصدار العقوبات الاقتصادية على الشمال فقط، مع التكفل بتوفير الدعم اللا محدود مالياً وسياسياً لجنوب السودان وغربه. وإذا ما عدنا إلى حقب زمنية فارطة وفى ما قبل عام 1900م تقريباً، نجد أن قرار المستعمر بفصل جنوب السودان عن شماله قرار اجتماعي في خطه العريض، فيما تفاصيله كانت تقضي بمنع الجنوبيين من تعلم اللغة العربية وعدم تسمية أبنائهم بها، إضافة إلى تفاصيل أخرى من ذات التهميش لأقاليم السودان. وقد نام المستعمر على «مخدة» مخططه الاستراتيجي من تاريخه، إلا أنه حينما استيقظ بعد عام 1940م اكتشف أن أكثر من مليونين «تقريباً» من أبناء جنوب السودان قد أتقنوا اللغة العربية، وكانت نقطة التحول طيلة العقود الماضية التي استجدت وجه «العم سام» ليطل مجدداً عبر نافذة المرحلة المفصلية بعد سنوات طويلة من المحاولات الفاشلة لتهميش الأقاليم، الأمر الذي ساهمت فيه جميع الحكومات السودانية المتعاقبة، إلا أن الحكومة الحالية رفعت الفيتو في وجه هذا التهميش، ورفضت أن يعيش أكثر من «39» مليون نسمة في زمن «الإسكافي»، ولأن الرئيس البشير مثل كل السودانيين الشرفاء، لا يليق بكرامته مسح « الجوخ» للمستعمر بوجهه القديم أو الجديد، ظهر على مسرح الأحداث «أكامبو» أو ما يسمى بالمحصل الغربي لفواتير الجباية العربية..!! فالمطالبة بمحاكمة البشير هي في مضامينها مطالبة بمحاكمة الشعب السوداني الذي لاحت في الأفق بوادر أزمته التي تمثل بوضعها الحالي حلقة جديدة في مسلسل طموح «المستعمر» في تقسيم أرضه واستلاب خيراته. إن السودان كما هو كائن كانت أحزابه قد أسقطت من حساباتها معنى العطاء، وأصبحت بوصلتها السياسية تتجه نحو الأخذ فقط، لذا أتمنى من هؤلاء أن يرتقوا بهمهم القومي، كي لا يستحيل الوطن الكبير بفعل أطماعهم إلى مجرد دمية معلقة في خيوط لعبة «العم سام» التي تخطط لأن يقسم السودان كما يجب أن يكون من وجهة نظرها الاستعمارية على النحو التالي: دولة الجنوب- دولة شرق السودان- ودولة دارفور الكبرى- إضافة إلى إنشاء دولة مستقلة في وسط السودان وشماله، ترزح تحت وطأة إدارة المستعمر الجديد الذي يجد الدعم من بعض الأحزاب التي باركت انفصال جنوب السودان، ومنهم من ينتظر فقط تعليق الجرس ليأخذ حصته، ولو كانت قطعة جاتوه من تورتة ثروات السودان..؟!